طقوس الفرح الآثم

25 ديسمبر 2023

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

تقترب السنة من نهايتها... حسنا، وما الجديد في الأمر؟ وما مبعث هذه الفرحة المبالغ بها لدى كثيرين منا! السنوات تفعل ذلك، كلما انقضى 365 يوما تقريبا، فلماذا يفرحُ الناس في عواصم الدنيا، ويقيمون الاحتفالات بهجة بالحدث الكبير، حين تنجز الأرضُ دورة أخرى حول الشمس، طبقا لقوانين كونيةٍ عليا، ليس لنا أي يد في حدوثها، يعدّون بحماسة كبيرة الدقائق الأخيرة من العام، ويتبادلون التهاني والأنخاب في أجواء صاخبة، يعبّرون عن سعادتهم رقصا وغناءً، يرتدون أزهى الثياب، ويحجزون في أماكن السهر التي تقيم حفلاتٍ خاصّة، يحييها نجوم كبار يتقاضون أجورا باهظة، يدفعها المخدوعون عن طيب خاطر، بغية قضاء أوقاتٍ ممتعة، تمنحهم التفاؤل في العام الجديد، وبما يحمله من وعود بقادمٍ أجمل، لعلهم يحتفلون بالنجاة سنة إضافية، عبروا سابقتها من دون خسائر في الأرواح والممتلكات، سنة جديدة طازجة، تزيد من رصيدهم المتبقّي على وجه هذه البسيطة، هل هي حقّا بسيطة؟ لا أظنّ ذلك، في واقع الأمر هي ليست بسيطة على الإطلاق، ومن يظنّ ويرى ذلك واهمٌ بالضرورة، لأنها بالغة التركيب والتعقيد، والقسوة، غرائبية وسوريالية ومتوحّشة إلى حد بعيد، حافلة بالتناقضات العجيبة غير القابلة للفهم والاستيعاب، حيث يجتمع فيها على الدوام الشيء ونقيضه، ما يسبّب الارتباك للمتأمل في تقلباتها واختلاف حالاتها وتبدّل مزاجها غير المتوقع، ويتعيّن علينا، رغم كل ذلك الالتباس، أن نتعايش مع حقائق الحياة الصعبة على وجه هذه غير البسيطة، ففي البقعة الجغرافية ذاتها قد يجتمع الثراء الفاحش مع الفقر المدقع، نمط الحياة المترف مع الحرمان المطلق.
وقد يتوفّر العدل والكرامة والأمان والحقوق المعيشية للشعوب المتقدّمة سعيدة الحظ، في حين تعاني شعوب عاثرة الحظ ابتلاها الله بواقع معيشي شاقّ، وبكل مظاهر الظلم والتعسّف والاستبداد، حيث تجرى مصادرة حقّها في الحرية والحقّ في الحياة الكريمة، ويفترض فيها الخضوع والتسليم والعضّ على الجرح، فيما الأرض تواصل دورانها غير عابئةٍ بتصحيح مسار الأمور، والزمن يجري بالآلية ذاتها، والمعذّبون في الأرض يزدادون عذابا ومعاناة، والمرفّهون يزدادون ترفا وبطرا، وتنكّرا لمعاناة الأقلّ حظا، يتفرّجون من بعد باستخفاف ولا مبالاة على المآسي الدائرة في الجوار، من دون أن يحرّكوا ساكنا، أو أن يفكّروا بمساندة إخوتهم في الإنسانية ولو بكلمة، ينفقون ملايينهم على التفاهة، ولا يفكّر أي منهم بالجوعى والمحرومين في الأرض.
وكي لا نذهب بعيدا، يكفي أن نتأمل في الواقع المروّع الذي يعيشه أهلنا في غزّة من قتل وتدمير وتهجيروتشريد وتجويع، حيث تحصد جرّافات العدو الصهيوني أجساد الغزّيين وتمعن فيهم ذبحا، وعلى بعد بضعة كيلومترات، تواصل الشقيقة الكبرى (!) مصر إقامة احتفالاتها ومهرجاناتها وانتخاباتها ومختلف مناسباتها المحلية، وتعمل وسائل إعلامها الرسمية من دون خجل، وبشكل ممنهج، على شيطنة المقاومة والتقليل من شأنها، بل وتمنّن أهل غزّة على لسان واحد من رموزها الردّاحين بالمساعدات الشحيحة الضئيلة التي تم إرسالها، وتحرّض مواطنيها على الالتفات إلى شؤونهم الخاصة، وتوجّه النقد اللاذع والحادّ الذي وصل إلى حد التخوين للنجوم المؤثّرين الذين أبدوا تعاطفا مع المآساة.
يجري ذلك كله وأفظع بكثير، فيما أوصال غزّة تقطّع إربا على مرأى من الجميع، والقهر وحده يغدو عنوانا للمرحلة قاتمة السواد التي كُتب علينا عيشها، وقد سكن قلوبنا اليأس وخيبة الأمل. ورغم ذلك، ما زالت الأرض تدور وتدور، والمحتفلون برأس سنتها الجديدة على أهبة الاستعداد لممارسة طقوس للفرح الآثم!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.