طغاة يُمارسـون العُنف اللفظي

31 أكتوبر 2022

(عدي أتاسي)

+ الخط -

(1)
جاءت سفيرة من دولة أوروبية، بعد أن انتهت مهمتها في الخرطوم، لوداع رئيس الدولة حسب العرف الدبلوماسي. عادة ما يحضر مثل هذه اللقاءات موظفو المراسم وممثل لوزارة الخارجية، ولا تخرج تفاصيل ما يدور بين رئيس الدولة والسفير المغادر إلى أجهزة الإعلام، إلّا أنّ عمر البشير، وكان رئيس الدولة، التقى بالصحافيين، وعليه نفخة أسد، فصرّح  لهم وبلهجة سودانية أنّه "صرف لها بركاوي". وتلك نكتة تضحك السودانيين عن رجلٍ من شمال السودان وقد نوى الحج لبيت الله الحرام، لكنّ لسانه لا يكفّ عن الشتم، فنصحوه أنّ الشتم لا يصحّ في بيت الله. نادى الرجل على ولده الذي سيصحبه الى الحجّ ليحضر شيكارة (كيس كبير) وأحضر من محصول تمر نخيله، وأخذ يرمي فيها تمرة مع كلّ شتيمة، حتى امتلأت الشيكارة. ثم غادر إلى الحجاز وشيكارة تمر الشتم يحملها ولده، وحين وصل إلى الطواف بالكعبة لاقى عنتاً في الزحام والتدافع، ولا يقدر أن يسبّ ويشتم، صاح على ولده أن يصرف لمن ضايقه من شيكارة الشتم تمرةً أو تمرتين، لكنّه لم ينطق بلسانه الشتم والسبّ... في هذه الحكاية سخرية مضحكة، لكن لك أن تتصوّر أن مثل هذه الحدوتة تأتي على لسان رئيس دولة يقول إنّه صرف لسفيرة محترمة "بركاوي" أي سـبّها سـبّاً مقذعاً. هو نوع من العنف اللفظي، ولربما لم تفهمه تلك السفيرة لحظتها، لكنّه يبقى عنفاً لفظياُ مستهجناً، ينبغي ألّا يفلت مرتكبُه من المحاسبة. 
(2)
ليس من الغرائب التي تثير العجب أن يكون السبُّ والشتمُ مِن شيم الطغاة وأرباب الأنظمة الشمولية القهـرية، خصوصاً لو تجرّأ معارضوهم على مضايقتهم بانتقاد سياساتهم، فالطغاة، وبعد طول مكوثهم على كراسي الحكم، لا يتحمّلون النقد أو مناوشة يبديها معارضوهم، فذلك عندهم شروعٌ بإسقاط حكمهم. من فِطرة الطغاة في توليهم السّـلطة أوّل أمرهم (أو أوّل انقلاباتهم العسكرية إن شئت) يخرجون على شعوبهم بلبوس الصلاح، ثم سرعان ما يخرِجون أنياب البطش ويمتهنون الاستبداد. ثمّة مثلٌ عند بعض شعوب عربية، مفاده أنّ من حسبوه موسَى أوّل أمره خرج عليهم فرعوناً طاغية، والأمثلة عديدة في المنطقة من صدّام حسين إلى معمّر القذافي، وأخيراً عمر البشير، ساموا شعوبهم شتى أنواع القهر والتعذيب مما شاع ونعرف.

ها هم جنرالات الخرطوم الحاكمون يصفون تظاهرات الشبيبة السودانية المطالبين بمدنية الحكم، بأنّهم محض مجرمين

ضاق المجتمع الدولي ذرعاً بنظم القهر والاستبداد، التي شاعت في بلدان العالم الثالث، ومثلت نقيضاً بائناً للمبادئ والقيم التي حملتها المواثيق والأعراف الدولية. ولعلّ تراتبية تقسيم البلدان إلى عوالم أولى وثانية وثالثة صارت، مع مبادئ المساواة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، أموراً غير مستساغة، وقد تجاوزها التعاون الدولي الذي جعل التشارك في العلوم والتقنيات  والتواصل الرقمي واقعاً معاشاً ومرئياً وشفافاً. نرى المجتمعات البشرية تتشارك في مجابهتها تحدّيات القضايا العالمية التي تعدّدت وتباينت، من  تغيرات البيئة والمناخ والطاقة والسكان وتناقص الموارد الطبيعية وسواها، إلى الاهتمام  بالحريات وحقوق  الإنسان والحق في العيش الكريم.
في ما يتصل بحقوق الإنسان، أنشأ المجتمع الدولي آليات عدلية لرصد التجاوزات في مثل تلك الحقوق ومحاسبة مرتكبيها على شعوبهم المستضعفة. لقد شهدت العقود الأخيرة حالاتٍ لتجاوزات حسمتها  المحكمة الجنائية الدولية في بلدانٍ مثل  صربيا ورواندا، وبعض بلدان أخرى في القارّة الأفريقية، وما زال بعض طغـاتها يختبئون بعيداً عن الملاحقة. 
(3)
لعلّ الملاحظة التي ينبغي التنبّه إليها أنّ تجاوزات الأنظمة الشمولية الاسـتبدادية وطغاتها لا  تقف أكثر تجاوزاتهم  على  القهر البدني، كالاحتجاز والتعذيب والقتل والإبادة الجماعية فحسب، وكلها تجاوزاتٌ تقشعر لها أبدان المستضعفين، ولكن تجاوزاتٍ تقع  لا تقل عنفاً عن القهر البدني، ذلكم هو العنف اللفظي الذي يقصد به إذلال الشعوب واستفزازها. في عام 2011 واجه معمّر القذافي معارضيه بالشّـتم والسـبِّ، فسـمّاهم في خطبة مباشـرة جرذاناً، وأنّه سيلاحقهم  في جحورهم، فانتهى به الأمر ملاحقاً ليلقى حتفه بيد معارضيه الليبيين، في جحرٍ كان القائد الأممي مختبئاً فيه. وكرّر الطاغية لوكاشنكو في بيلاروسيا، في العام 2020 الإسـاءة لمعارضيه بأنّهم جرذان. طال مكوثه، هو الآخر، في كرسي الحكم منذ توليه السلطة في بيلاروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينيات القرن الماضي. وها هم جنرالات الخرطوم الحاكمون حالياً يستهينون بتظاهرات الشبيبة السودانية المطالبين بمدنية الحكم، فيصفونهم بأنّهم محض مجرمين، فيواجهون تظاهراتهم بعبوّات الغاز والعيارات الصوتية.

شيمة الطغاة هي الاسـتخاف بشعوبهم، والمضي لترويعهم واستفزازهم إلى الحدّ الأقصى

(4)
شيمة الطغاة هي الاسـتخاف بشعوبهم، والمضي لترويعهم واستفزازهم إلى الحدّ الأقصى. جرّب السّـودانيون شـيئاً من مثل هذا الاستخفاف والترويع والاستفزاز، رأوه بل سمعوه في أساليب عمر البشير، ومن بعض  قيادات نظامه الإسـلاموي. طوال سنوات حكمه، سمع السودانيون، من قياداتٍ في نظامه، عـنفاً لفظـياً لم يعتادو سماعه من سياسيين من قبل. من أكثر مساعدي البشير، ومن عرف بتفنّنه في أساليب العنف البدني واللفظي، أسـتاذ جامعي شغل عـدّة مناصب في النظام الإسلاموي الذي دام ثلاثين عاما. شغل منصبا ساميا في التنظيم الإنقاذ الحزبي الحاكم ، كما عمل وزيرا للزراعة، وأيضا مديرا للأجهزة الأمنية في قترة تالية. هدد الرجل معارضي نظام الإنقاذ الإسلاموي بقوله وبلهجة سودانية مستفزّة: "أن الزارعنا غير الله ليأتي ويقتلعنا"، والتعبير مفهوم، فالرجل يحسب أنهم جاءوا بتكليف ربّاني، ولن يزيحهم من  الحكم إلا الله سبحانه وتعالى، ثم يمضي في العنف اللفظي درجاتٍ  فيهدّد معارضي نظامه، بأنّ من يريد تغيير النظام لن يقدر على ذلك، إلا إذا تمكّن من "لحـس كوعـه". ماذا يتوقع من  سـفه يصدر عن  مساعدٍ لرئيس دولة  يشـتم سفراء أجانب يأتون لوداعه بعد إكمال مهامهم في بلاده، على النحو الذي حكينا عنه أول المقال؟

من العدل المحاسبة على العنف اللفظي، وهو لا يقل قهراً عن العنف الجسدي الذي يواجه به الطغاة والمستبدّون معارضيهم

(5) 
إذا كان القانون الدولي يخضع للعدالة الطغاة والمستبدّين الذين يقهرون شعوبهم ويسومونها العذاب والاعتقال والقتل، فليس أقلّ من محاسبتهم أيضاً على أساليب استعمالهم العنف اللفظي، فهو من أشـدّ أسلحة قهر الرّوح وتثبيط الهمّة والترويض على الانكسار والاستسلام لسياط النظام المتسلّط.
المثال في أول المقال يدل على جنوح رأس ذلك النظام في السودان باستهانته بالأعراف الدبلوماسية التي يراعيها المجتمع الدولي الرّاشـد، فيتبجّح باستعمال  عنفٍ لفظيٍّ مسيئ، وجّههُ  في وجه سـفيرة محترمة  لدولة أوروبية كبرى، غير أنّ ما جاء من لسانه من عنف لفظي ضد معارضيه لم  يقِل عمّا قاله القذافي في ليبيا، أو ما جاء من لسان لوكاشنكو في بيلاروسيا، فقد وصف البشير معارضيه أيضاً بأنهم جرذان، إلّا أنّ الثوّار السودانيين لم يلاحقوه بالحجارة. من حسن حظه أنّ بعض الجنرالات المسيطرين اليوم في الخرطوم، ومنهم بعض مرؤوسـيه أو ممّن كانوا عاملين تحت إمرته يوماً، رتبوا لإبقائه في مكانٍ قصيٍّ، وليس وراء القضبان  فيظهر في قاعة محاكمته مع عناصر نظامه، ثم يختفي في مخبئه القصيّ. إنّ ذلك مما يعدّ  استخفافاً، بل ملهاة، بثورة أزاحتْ نظاماً مستبدّاً.
لربّما يزعم بعضهم إن محاكمة أفعال الطغاة في القتل والتعذيب والإبادة الجماعية وتجريمهم يعدّ حكماً رادعاً، ولكن من العدل محاسبتهم أيضاً على العنف اللفظي، وهو لا يقلّ قهراً عن العنف الجسدي الذي يواجه به الطغاة والمستبدّين معارضيهم.