طبيب جرَّاح... جِراح إنستغرام يداويها
في يوم من أيّام شابّةٍ أو شابٍّ بسيطَين، والتّقييم هنا معرفي، يبحثان بحثاً خفيفاً في "غوغل"، لالتقاط معلومة أو نصيحة، فتُستقبل استقبالَ الفاتحين في إنستغرام، كأنّهما عالِمان بما يفتيان فيه. قد نُبرّر ذلك بأنّ معظم فئات المتابعين لهما تسمعها غالباً للمرّة الأولى. فجيل إنستغرام معظمه لا يقرأ ولا يشاهد الأخبار ولا البرامج، فمن أين له هذه المعلومة إذا لم تحملها له العُلبة الوردية؟
هنا يصبح التعبير فخّاً، فالذين قاتلوا من أجل حرّية التعبير، يجدون أنفسهم في الحفرة التي هربوا منها، وهي التجهيل. فلا فرق بين تجهيلِ الحِرمان من المعرفة، وتجهيلِ الوقوعِ في معرفة جاهلة. لا جدال في حرّية التعبير عن الرأي، لكن ماذا عن الاستيلاء على تخصّصات دقيقة، بنقرة زرّ؟ هل هو رأي أم احتيال؟
لعلّ الطبّ أكثر من تعرّض للافتراء في المرّبع الوردي. فحيثما ذهبتَ تجد "طبيباً" يقدّم معلومةً صحّية غير دقيقة باعتبارها حقيقةً عامّة. المفارقة أنّه غيرُ مُقنعٍ في دور الطبيب، إمّا لـ"خفّة يده العلمية"، أو هيئته أو لغته، أو لجولته العشوائية في التخصّصات والمجالات، لكنّ متابعيه جيشٌ كامل.
ورغم أنّ الشواهد لا تصنع الأطبّاء، وأنّ أكثر من نصف أطبائنا أقلّ كفاءةً ممّا يجب، فإنّ ذلك ليس العائقَ الوحيد، لأنّ لكلّ منهم تخصّصه الذي لا يتجاوزه. وعندما تزور الطبيب العام، رغم عُموميته، فهو يتعامل مع أعراضك بحذر، في ظلّ تكوينه غير المتخصّص، ويترك اجتهاده الشخصي لنفسه، خشية التداعيات. لكن جلّ المحظورات مباحة في ساحة المربّع الوردي.
في الدرجة الثانية من "العطاء المعرفي الوردي"، تأتي نصائحُ التغذية، مع القاعدة نفسها، مع حافز إضافيّ، هو تناقضها وتطاولها على الطبّ. فهدف التغذية هو صحّةٌ أفضل، وهات يا وعود بعلاج الأمراض المُستعصِية بالطعام. ثمّ تنهالُ نصائحُ الموضة، مع أنّ الأعمى يرى أنّ جيش "الفاشينيستا" لا يعرفن شيئاً عن الأناقة، ولا تساعدهن الموضة الحالية على النجاة بأذواقهن.
يا حسرة على الطبّ، وعلى الأناقة، وعلى الفُكاهة نفسها، التي تُنسخ وتُبهدل بحيث يُقدّم الجميع النُكات البائخة العابرة للمجتمعات نفسها. إضافة إلى التمطيط والمبالغة في الأداء. فنخشى على ذوق هذا الجيل في الضحك. لكن لحسن الحظ تُنقذ "الميمز" الموقف، وسمعته. فهي قابلة للتطويع في كلّ مجتمع، على عكس النُكات، لأنّها تمثّل شعوراً محدّداً، يمكن تفسيره في وجوه متعدّدة. والطريف فيها أنّ موضوعها، غالباً، هو الساخر نفسه، وهذا جديد في عالم الضحك، الذي كان يقوم دوماً على السخرية من الآخرين. بينما الضحك الحقيقي، هو ضحك المرء على نفسه.
من أهمّ ما حمله إنستغرام هو المحتوى المهني، الذي يفتح أبواباً شاسعةً لمعرفةٍ ليس من السهل تزييفها. فيُعلّم تقنيات مهمّة، في الرسم والخياطة والنجارة وغيرها من المهارات اليدوية. كما أنّ التقنيات الرياضيّة مفيدةٌ وصادقةٌ غالباً، لأنّها تقوم على تقليد الحركة لا تفسيرها. ولا تعليق على وصفات الطبخ، فقليل منها ما هو حقيقي في وعده بطعم خيالي.
لكنّ المحتوى المعرفي، مُجرَّد جزر صغيرة في بحر هائج بلا ربّان، يكفي أن تشاهد نوعاً من المحتوى صدفةً أو فضولاً، لتنهال عليك مقترحات إنستغرام الذي يغمرك بكرمه، وهو عبارة عن كائنات سمجة تقدّم نفسها على أنّها شخصياتٌ مُؤثّرة، رغم أنّها تقتسم ما لا قيمة له، لا إنسانياً ولا جمالياً ولا معرفياً.
لكنّها تستحقّ بعض الثناء للجهد الذي تبذله في إخراج المَشاهد، التي من دون قيمة على الإطلاق. فنحن نعرف كمّ الجهد الذي تتطلّبه صورة حسنة واحدة، تُظهر المرء في محيط لافت، مثل شاطئ أو مقهى أو مبنى، حيث تخذل الإضاءة، وتظهر عيوب الجسد والوجه. وحيث لا يمكن التحكّم في وجود الأشخاص حولك.
أما الذين يسجلون محتوىً وهم يقودون سياراتهم، بفيديو رديء لا ينقذه "الفيلتر"، وهم مشغولون بالتفذلك على مُشاهد مُفترَض، في أقاصي الأرض، فيحتار متفرّجٌ قادهُ لؤم الخوارزميات أمامهم: ماذا عن الطريق، ومن يقود؟ أين القانون؟ أين احترام حياة الآخرين يا أطبّاء يا متخصّصين، يا سبب ندم المدارس والقوانين؟!