طبول مقتدى الصدر

30 اغسطس 2022
+ الخط -

لا تنوي هذه المداخلة الغوص في لجّة الأزمة العراقية المتفاقمة سنة بعد أخرى، ولا أن تنافس المعلقين، من مختلف أطياف المشهد السياسي العراقي، في تشخيص الحالة الراهنة وبيان أسبابها وشرح سياقاتها، وإنما ستنصرف إلى تناول ردود الفعل العربية على التطوّر الذي يقوده زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر المسكون برغبة الانتقام، وذلك كله وفق انطباعاتٍ أوليةٍ تكوّنت لدى الكاتب من خلال قراءاته وقائع الأيام العراقية المفتوحة على أخطر الاحتمالات، وبحسب ما عكسته وسائل الإعلام ومداخلات الكتّاب العرب في شؤون البلد الذي كان يشكل أحد أهم أعمدة النظام العربي، قبل الغزو الأميركي الذي أدّى إلى اختلال التوازنات في المنطقة لصالح إيران.
وليس من شك في أن القوة الدافعة وراء التطورات في بلاد الرافدين ماثلة بكل وضوح في الجماهيرية الكاسحة لمقتدى الصدر، الذي كان من المشاركين البارزين في اللعبة السياسية الراهنة، قبل أن ينضج على نار حامية، ويتحوّل إلى رقم صعب، إن لم نقل الرقم الصعب، في كل ما يتصل بالحياة السياسية القائمة على النهب والفساد والمحاصصة، والمرتهنة للمليشيات ذات الولاء الإيراني، وغير ذلك من مظاهر شاذّة يحاول زعيم التيار أن يطيحها بقوة الشارع، لا عبر المؤسّسات الدستورية لدولةٍ على الورق.
ولعل أبرز ما يميّز النبرة الصدرية الحادّة في هذه المواجهة مع وكلاء إيران الخصومة الشديدة، حتى لا نقول العداوة والتنافس على الزعامة داخل الطائفة، وفوقها معارضة تدخلات الحرس الثوري السافرة في شؤون البلد المستباح، الأمر الذي شكل سابقة غير مسبوقة في حالة العراق المخطوف منذ نحو عقدين، طوْراً من واشنطن وطوْراً من طهران، وأحياناً بالتفاهم بين العاصمتين المتعاديتين، وهو تطوّرٌ أحسب أنه محلّ ترحيب واسع من غرماء إيران في المنطقة العربية، وفي مقدمتهم الحكومات والنخب والرأي العام، وكل من راقبوا بقلق توسّع المشروع الإمبراطوري الإيراني في اليمن والعراق وبلاد الشام.
غير أن هذه السعادة السياسية الغامرة للقلوب والعقول، من الماء إلى الماء، لم تعكس نفسها في الفضاء العربي العام، باستثناء التغطية الإعلامية المكثفة. ولم يحتفِ بها السياسيون والكتّاب وذوو الرأي في أيٍّ من عواصم العرب، لا على المستوى الرسمي، وهذا مبرّر ومفهوم، ولا على مستوى المعلقين في الصحافة والإعلام الذين التزموا، في غالبيتهم، جانب الحذر والترقّب إزاء هذه المعركة السياسية الصعبة، التي يقودها مقتدى الصدر بنجاح ظاهر، على الأقل حتى الآن، وأمسكوا بأنفسهم عن الانحياز لصالح ما يشبه تمرّدا يقوم به أفقر فقراء الشيعة العرب على سطوة إيران الطاغية وتحكّمها في مقاليد بلدٍ فكّكه الغزو من الخارج، وقوّضه من الداخل نظام الولي الفقيه.
وأحسب أن كل هذا الحذر في تناول المتغيرات العراقية الجارية على قدم وساق، ومردّ كل هذا التحوّط وعدم الاستجابة العربية، أو قل الامتناع عن الانفعال أو الترحيب العلني بهذا التطوّر المهم في بلد عربي كبير، يعود إلى سببين جوهريين. أولهما أن مقتدى الصدر، وفق سجله المديد، متقلب المزاج، فرديُّ النزعة وسريع الانتقال من النقيض إلى النقيض وكثير الخسارات، يُخاصم ويهادن بين صبح ومساء، الأمر الذي يدعو إلى عدم اليقين بثباته على موقفه الراهن، والحذر إزاء دويّ قرع طبوله المسموعة جيداً داخل العراق، فيما لا يُسمع لها صدى خارج أرض السواد. السبب الثاني لهذا الحذر والتحفظ والامتناع عن الوقوف سياسياً مع الصدر في معركته الملتبسة ضد النفوذ الإيراني في بلاده ماثلٌ في التجربة المرّة مع صاحب العمامة السوداء ذاتها له في لبنان، فحين ظهر حسن نصر الله زعيماً عابراً للطوائف والحدود والمذاهب، مقاوماً لا يشقّ له غبار، نال أبلغ آيات التقدير والإعجاب، وعُلقت صوره في البيوت، إلى أن سقط القناع عن القناع، عندما تبيّن أنه رأس حربة إيرانية بالتمام والكمال، واستجاب لتحالف الأقليات في المشرق، وألقى بكل ثقله وراء النظام القاتل في دمشق، مشاركاً في وأد ثورة الكرامة والحرية، قبل أن يضربها الإرهاب ويودي بها التآكل الذاتي، وهي تجربةٌ لم تسقط بعد من الذاكرة العربية المثخنة بوقائع الغدر والطعن من الخلف، ولا تشجّع مرة أخرى على إبداء الحماسة حيال مناكفة الصدر التي لم تبلغ نقطة اللاعودة مع إيران، أو التورّط في الحماسة لخطابه الانفعالي، الذي قد يتبدّل غداً أو بعد غد.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي