طاقة الشباب الهائلة
كنتُ في الخامس الثانوي، حين اندلعت حرب الخليج الثانية "عاصفة الصحراء"، وما رافقها وتلاها من أحداث. وحين سمعتُ باندلاع الانتفاضة في الجنوب، وأن نيرانها ستصل إلى بغداد قريباً، لم أفكّر كثيراً أو أتردّد في الانضمام إليها. كانت الحماسة تشتعل في روح الصبي الذي كنته وعقله، واندفعتُ، مع مجموعة من زملاء الدراسة، إلى تنظيم أنفسنا استعداداً للانخراط في صفوف الانتفاضة، حين تصل إلى بغداد.
كان تفكيراً انتحارياً، ولا ينمّ عن وعي وإدراك للعواقب، أو حتى للمعطيات الواقعية التي كانت تفيد بأن النظام، على الرغم من القصف التدميري غير المسبوق الذي قام به طيران التحالف، ما زال قادراً على صدّ أي عمل داخلي يسعى لاطاحته، وهذا ما حدث، فخلال بضعة أسابيع أنهت مروحيات نظام صدّام ومدافعه ودباباته التي دخلت الأحياء السكنية في مدن الجنوب كلّ أمل بأن تتحوّل الانتفاضة إلى حالة ثورية انقلابية تطيح النظام.
كانت المصادفات وحدها من سحبتني بعيداً عن الانسحاق تحت آلة النظام الدموية في تلك الأيام. مجرّد اختلالٍ في المواعيد والتوقيتات، لم تُحالف آخرين كانوا في عمري، تعرّضوا للاعتقال أو القتل. ومن الممكن القول، بأمانة؛ إنّ آلافاً من أبناء جيلي انتهى بهم المطاف تحت التراب أو مشرّدين في أصقاع الأرض، ثمناً باهظاً للثورة ضد نظام سلطوي جائر.
غالبية أصدقائي وزملائي الذين كانوا يخطّطون في تلك الأوقات للانضمام إلى الثورة لم يستشيروا أهاليهم، ولم يحصلوا على إذنٍ منهم. ولو فعلوا، فإن أكثر الآباء هدوءاً وحكمةً كان سيتحدّث عن مخاطر فعلٍ من هذا النوع، وأنه محكوم عليه بالفشل. أما نسبةٌ أخرى ربما أكبر من الآباء فسيلجأون إلى العنف وضرب الأبناء، وربما حبسهم في البيوت، لمنعهم من ارتكاب مغامرة حمقاء، حسب تصوّر هؤلاء الآباء وإيمانهم.
تكرّر الموقف الذي كنت فيه، قبل سنة من نهاية المرحلة الثانوية، لاحقاً في عدّة محطّات من التاريخ العراقي المعاصر. لقد شاهدت، وأنا ابن الثلاثين، شباباً ومراهقين صغاراً يسارعون للانضمام الى مجموعاتٍ مليشياوية محليّة، تشكّلت من أجل حماية الأحياء من أي مخاطر محتملة، بعد سقوط النظام وانهيار مؤسّسات الدولة الأمنية، في إبريل/ نيسان 2003.
ثم مع تراخي الأميركان في إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية العراقية، وزيادة الاختراقات الأمنية، ثم التفجيرات الإرهابية التي لم تكن معهودة سابقاً في العراق، رأينا كيف أن الآباء أنفسهم لم يعودوا يمانعون التحاق أبنائهم المراهقين والشباب في المجموعات المليشياوية المسلّحة، فقد كانت في تلك الأوقات خلاصاً معقولاً ومفهوماً.
ثم تكرّر الأمر مع انهيار الساحة السورية، وانفتاحها على متطوعين من كلّ الأطراف والجهات، فقد شاهدنا كيف أن شباباً عراقيين لم يبلغوا العشرين يُسارعون في الذهاب إلى سورية والقتال هناك، في معارك ليس لها علاقة مباشرة بحياتهم الشخصية، وإنما استجابةً لدواعٍ أيديولوجية وطائفية. ومثلما كان الأمر معي في سن السابعة عشرة وما بعدها بقليل، وما كان عقب 2003، فإن الأمر هنا أيضاً مفهوم، من الناحية السيكولوجية، فهذا هو "العمر الرومانسي"، حسب تعبير ميلان كونديرا، حيث العاطفة في أوجها، وحيث الرغبة قويةٌ للانعتاق من أغلال العائلة والإطار الطفولي الذي تحبس العائلة ابنها فيه.
وتكرّر الأمر نفسه مع لحظة سقوط الموصل وما تلاها من توسّع لمسلحي تنظيم داعش في شمالي العراق وغربه، فشباب كثيرون تطوّعوا للقتال كانوا مدفوعين بحماسة العمر الرومانسي، وبعضهم كان يجازف بشجاعة، ومن دون خبرةٍ قتالية، ليتحوّل إلى هدف سهل لقنّاصي "داعش" أو مفخّخاتهم. هذا الجيل الرومانسي نفسه الذي اندفع إلى ساحات التظاهر في مدن العراق في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وفتح بعضهم صدورهم لقنّاصي السلطة ودخانياتها التي فلقت رؤوس 800 شاب منهم، لقد كانوا عصب الانتفاضة الشبابية وجوهرها.
هذه الجرأة والطاقة الحلمية التي تعمل عمل وقود الصواريخ محرّك فعّال من محرّكات التاريخ، وأي دولة ونظام سياسي يتجاهل هذه القوة سيعرّض نفسه لمشكلات كثيرة، بل العكس هو ما يجب أن يكون في الأولويات؛ أن يجري استثمار الطاقة الهائلة من أجل البناء وتغيير الواقع، لا مواجهة هذه القوّة بالعنف، فالمواجهة خاسرة، والطاقة الشبابية الهائلة ستنفجر في كلّ الأحوال، للبناء أو التدمير.