ضحكة مكسيم خليل وعلكة مارلون براندو
ثمّة لحظات في تاريخ السينما، والدراما بشكل عام، تُقيم في الذاكرة الجماعية لا تبرحها، وتتماهى مع لحظاتٍ تاريخيةٍ معينةٍ تحياها الشعوب، أو تتماهى مع العصر. ولا بد لمحبّي الأداء المتفرّد والمتميّز من أن يتذكّروا لقطاتٍ سينمائية وتلفزيونية بعينها، ومنها لقطة مارلون براندو في نهاية "التانغو الأخير في باريس"، إثر استسلامه للحب مجدّدا بعد انتحار زوجته، وملاحقته البطلة (ماريا شنايدر) في نهاية الفيلم، ودخوله شقّتها عنوة ليُقنعها بحبّه، فتقول له إن قصتهما قد انتهت، ثم تُطلق عليه النار من مسدّس والدها العسكري. يخرج بول (براندو) إلى الشرفة، حيث أسطح باريس الرمادية، فنراه في لقطةٍ قريبة، شاحب الوجه، يبصُق من فمه علكة يلصقها بالدرابزون، كمن يبصق حياته، ثم تثبت الكاميرا على ملامح وجهه التي تقول كل عبثية هذه الحياة، واستحالة العيش في عالم موحش.
كذلك، لا ينسى المشاهد صرخة الممثّلة الإيطالية، آنّا مانياني، في تحفة روبرتو روسّيلليني، "روما مدينة مفتوحة"، حيث أدّت دور بينا، المرأة الإيطالية الشعبية، وهي تركض مفجوعة خلف الشاحنة العسكرية حيث وُضع حبيبُها، المقاوم فرانشيسكو، بعد أن قبض عليه النازيون، فترُدى قتيلةً برصاص الجنود وتسقط أرضا أمام أعين ابنها الصغير وجيرانها. كان أداء مانياني في ذلك المشهد رهيبا، وقد رفعها في إيطاليا كما في العالم إلى مستوى الرمز، وهو سيبقى، وإنْ بعد مشاهدته عشرات المرّات، لروعة أدائها وواقعيته، يُثير في نفس المشاهد انفعالاتٍ لا يُبطلها الزمن.
مناسبة هذا الحديث أداء مكسيم خليل، في المشهد الأخير من مسلسل "ابتسم أيها الجنرال"، لأنه حتما من هذا العيار، وإن وُجد في كل عيار أكثر من مستوى، فهذا مشهدٌ سوف يُقيم طويلا في وجدان المشاهِد السوريّ والعربي على السواء، ونحن لن ننسى عمّا قريب، الضحكة التي اختتم بها الممثّل السوري، المسلسلَ (كتابة سامر رضوان، إخراج عروة محمد، وإنتاج شركة ميتافورا) الذي عُرض خلال موسم رمضان على شاشتي العربي 2 وسوريا. وبغضّ النظر عن قيمته عملا دراميا شاهده الملايين وأسال حبرا كثيرا وردود أفعال تناقضت وتباينت، لكنها أجمعت، في النهاية، على أمر ثابت، أسبقية هذا العمل الدراميّ في تناوله سيرة عائلة من الحكّام العرب الذين لم يطوِ التاريخ ذكرَهم بعدُ.
ما قام به مكسيم خليل في اللقطة الأخيرة التي تدوم 55 ثانية بالتمام، بعد تسميم صهرِه وحليفه على العشاء، وتيّقنه من هزيمة أعدائه ومعارضيه كافة، ونجاح مؤامراته وجرائمه ومكائده، واستتباب السلطة المطلقة له، يستحقّ كلّ التحية لما فيه من تميّز وإبداع في أداءٍ يرقى، من دون شكّ، إلى أفضل ما أنتجته فنونُ الأداء الدراميّ. هكذا، فإن "الجنرال" القلق على منصبه، والحانق على من يودّ مقاسمته السلطة، والذي لم يبتسم طوال الحلقات الثلاثين، سوف يُتحفنا، في الخاتمة، وخلال ما يقارب دقيقةً، بتعابير قسمت وجهَه حرفيا نصفين: جزء أعلى حيث الجبين والحاجبان بانعقادهما والعينان بقسوة نظرتهما، يتناقض، وبشكل كلّي، مع النصف السفلي، حين يرتفع الوجهُ المخفَض بطيئا ليواجه الكاميرا في لقطةٍ قريبة، فتنفرج الشفتان تدريجيا، ترتعشان لحظة، قبل أن تفترّا عن ابتسامة تُبرز أسنانا سوف تبدو لناظرها، وبفعل النظرة القاسية الثابتة، أقربَ إلى أنيابٍ منها إلى أسنان بشرية. ولو أشار المُخرج على مكسيم خليل أن يكتفي، مع هذا الملمح، بالقهقهة المكتومة الخفيضة الأولى، من دون المضيّ بها إلى قهقهةٍ صريحةٍ جاءت ممسرحةً بعض الشيء (لم تدم طويلا)، لكان حقّق لحظة أداء "كاملة" بكل معاني الكلمة.
ومع هذا، برز مكسيم خليل، في المشهد الأخير هذا، ممثّلا من الطراز الرفيع، وذلك بفضل أداءٍ "استثنائي" سوف يُحسَب لممثّل عربيّ تمكّن، في لقطة ثابتة واحدة، أن يُبرز وجهين متناقضين في آن، وقد اجتمعت فيهما قسوة الشرّ مع نشوة السلطة وزهو الانتصار.