صور العنف شاهدةً
قلت لصديقتي إنّني بتُّ أتقصّد إعادة نشر صور الأطفال ذوي الرؤوس المقطوعة في غزّة، والأجساد التي تحوّلت هياكلَ عظميةً بعدما تُرِكت جثثاً عاريةً للكلاب. جاء الحديث في إطار النقاش الحالي عن ضرورة حماية أنفسنا من الضرر النفسي اللاحق من التعرّض لهذا الكمّ من العنف والغضب الملازم لفعل التعرّض للعنف. يُعمّق هذا الشعور وحدتنا في بلاد الهجرة، حيث تبدو مُعايشةُ الإبادة في غزّة والحرب في لبنان تجربتين فرديتين تخلوان من فعل الانتماء إلى مجموعة نتشارك معها الشعورَ بالقلق والغضب. العيش المزدوج، بين حياتنا هنا في الغرب وحياتنا الافتراضية في وسائل التواصل، حيث نتابع العنف الهائل الذي حوّل الأجسام مادّةً للساديّة، هو في حدّ ذاته حالةٌ من الانفصام أو حتّى الجنون.
السؤال الأكثر أهمّية: هل نواصل إعادة نشر صور هذا العنف الرهيب باعتبارنا شهوداً أخلاقيين عليه، أي إنّنا متضامنون مع ضحاياه؟ أم علينا ألّا نشارك في نشر هذه الصور لأنّها تُعمّق نزع الإنسانية عن الضحايا، بما في ذلك فعل الإلغاء الذي يتعرّضون له؟
عدم نشر صور العنف لن يوقف فعله، كما أنّه لن يُلغي عدم أخلاقية القتل نفسه
تعتبر معاييرُ المهنية الصحافية الغربية نشرَ صورِ عنفٍ شديدة الدموية يُنزِل مزيداً من العنف في الضحايا، وتنكر كرامتهم الإنسانية. في حالة حرب الإبادة في غزّة، الأجساد باتت هالةً، مُجرَّدَ مادّةٍ للقتل الساديّ. صور جثث مقطوعة الرؤوس أو كومة عظام أصبحت مادّةً اعتياديةً في وسائل التواصل الاجتماعي. أطفال يلعبون، يَعرِضون أطرافهم المبتورة وكأنّها انتصار للحياة والقدرة على الاستمرار. آباء يحملون جثث أولادهم ملفوفةً برقع القماش لدفنها. جثث تُجمَّع قطعها لدفنها؛ أحدهم يُغرّد أنّه شاهد شخصاً يصرخ فرحاً أنّهم وجدوا رأس أمِّه، ما يعني أنّهم سيدفنون الجثَّة كاملةً. جثث الأطفال الموتى ضحايا الجوع تبدو مشاهدَ من فيلم رعب. أحدهم يحمل جُرناً فيه مواد محروقة يعرضها أمام كاميرا الهاتف النقال، قائلاً إنّ ذلك ما تبقّى من قاطني إحدى الخيام التي قُصِفَت وحُرِقَ اللاجئون فيها أحياء. كتب الصحافي، مراسل الجزيرة إسماعيل الغول، في تغريدة قبل مقتله، أنّه لا يخجل من القول إنّه ينام جائعاً كما الأطفال الذين يطلبون منه إعطاءهم ما يقتاتون به لسدّ جوعهم. عُرِضَت جثّة إسماعيل هي أيضاً مقطوعة الرأس. في الجانب الآخر، مشهد احتفالي ساديّ بالعنف، لعلّ أبرزه صور التظاهرات الهستيرية دفاعاً عن مُرتكِبي الاغتصاب في معتقل سدي تيمان الإسرائيلي.
شهدت النزاعات السابقة كلّها، كما جرائم الحرب والإبادة، انتهاكات فظيعة، قد لا تقلّ عنفاً عن القتل في غزّة، وساديّة الاحتفال به من مرتكبيه، إلّا أنّه قتلٌ يُوثَّق بالكامل في وسائل التواصل الاجتماعي بيد الضحايا والمرتكبين على حدّ سواء، في حين تُقدِّم وسائل الإعلام التقليدية نسخةً مُهذَّبةً من هذا القتل، تُركِّز بشكل أساس في التطورات السياسية للنزاع. طالما أثارت صور العنف أسئلةً أخلاقيةً عن نشرها أو الامتناع عنه، أبرزها صورة جثّة الطفل السوري (آلان) التي لفظها البحر من قارب الهجرة إلى الساحل التركي عام 2016. صورة الجثّة الهادئة من دون دماء، تبدو وكأنهّا نائمة، أثارت انقساماً في الصحافة البريطانية، وقرّر بعضها عدم نشر الصورة لأنّ الضحية طفلٌ لا بدّ من حماية خصوصية مأساته. الصورة التي تحوّلت ما يشبه أيقونةً، تمكّنت من فرض نقاش الهجرة في الإعلام والسياسة فترة وجيزة. ورغم أنّها لم تُحدِث أيَّ تغيير في السياسات آنذاك، لكنّها ساهمت في تحوّل اللغة في وسائل التواصل، من استخدام تعبير مهاجر إلى تعبير لاجئ، في وصف السوريين العابرين إلى أوروبا، ردّاً على الخلط بين المهاجر وبين المُغترِب في لغة الإعلام التقليدي، وفقاً لدراسة أجراها فريق بحثي في جامعة شيفيلد البريطانية. اليوم، لا يبدو أنّ القتل في أشكاله الأكثر بشاعةً، التي لم نشهد مثيلاً لها، يُثير أيَّ غضبٍ أو ردّةَ فعل في الإعلام أو في السياسات، فيما يتعدّى تظاهرات التضامن وحملات المطالبة بوقف تسليح إسرائيل. يبدو قتلاً شديد العنف في حين أنّه بات فعلاً عادياً لا يستوجب التوقّف عنده.
في ظلّ هذا التغييب لمعنى العنف، قد يكون نشرُ صوره الأكثر فجاجةً الردَّ الوحيد لمنح ضحايا هذا العنف بعض الاعتبار لإنسانيتهم المفقودة. عدم نشر هذه الصور العنيفة لن يوقف فعل العنف، كما أنّه لن يُلغي عدم أخلاقية القتل نفسه. هل نسأل مثلاً الأهالي الذين يدفنون أشلاءَ عائلاتهم إذا ما كانوا يسمحون لنا أن نأخذ صور الأشلاء بتهذيب لعرضها مموّهة حتّى لا تؤذي عيون المشاهدين؟ هل نسأل الأمَّ التي شاهدناها تصرخ، وهي تشاهد ابنتها تحترق داخل الخيمة التي استهدفها القصف، إن كانت تسمح لنا أن ننقل معاناتها؟ هل الامتناع عن نشر مشهد هذه المأساة سيقدّم فائدةً ما للضحية أو والدتها؟
قد يكون نشرُ صور العنف الأكثر فجاجةً الردَّ الوحيد لمنح ضحاياه بعض الاعتبار
في خصوصية حالة غزّة، حيث الإعلام التقليدي غائب تاركاً التغطية للصحافيين والعاملين الإعلاميين المحلّيين (113 منهم في الأقلّ قتلوا حتّى الآن بحسب لجنة حماية الصحافيين، واعترفت إسرائيل باستهداف عدد منهم بحجة التعاون مع "حماس")، وفي حالة غياب الشاهد الإعلامي على الحدث، فإنّ فعل مشاركة صور العنف قد يكون السجل شبه الوحيد لوقوعه، ولبشاعة الجريمة. لعلّ هذه الصور تُشكّل أيضاً مادّةً لعدالة ما قد تتحقّق يوماً، في حين لن يكون هنالك صحافيون يقدّمون شهادات عما جرى كما في جرائم حرب سابقة. أعترف أنّ إعادة نشر هذه الصور من باب الشهادة على العنف (Bearing Witness) يحمل في حدّ ذاته عنفاً يُقارب فعل السادية أو الجنون، نظراً إلى وقاحة العنف، إلّا أنّه فعلٌ لا بدّ منه. الفعل الآخر الوحيد الذي قد يقارع العنف هو إعادة نشر صور العائلات التي قضت أفراداً أو جماعاتٍ، التي التقطت لهم عندما كان هؤلاء أجساداً كاملة... في انتظار العدالة لهم وللجميع.