صندوق الطائفة الضيّق
طرح عمّار الحكيم، زعيم تيار الحكمة المنضوي في التحالف البرلماني الذي يقود الحكومة العراقية الحالية، في لقاء إعلامي أخيراً، ما أسماه "مشروعاً" للشيعية الوطنية. بما يوحي بأن هذا المشروع سيكون عنواناً لخطاب الحكيم وتياره السياسي في المرحلة المقبلة، ربما بديلاً عن ثنائية "الدولة واللادولة" التي رفعها شعاراً (في انتخابات أكتوبر 2021)، وأدّت به إلى نتيجة انتخابية مخيبة للآمال، فارتدّ منها إلى التحالف مع المليشيات نفسها التي قامت دعايته الانتخابية بالضد منها!
وفي متابعة لفكرة "الشيعية الوطنية"، لم نجد فيها، على وفق ما أدلى به الحكيم، أي شيءٍ لافت، وكانت مجرّد كلام إنشائي، يحاول التغطية على تصوّر طائفي تقليدي يستقي مفاهيمه من أدبيات المدارس الدينية أكثر من القاموس السياسي الحديث.
على أية حال؛ ليس مصطلح "الشيعية الوطنية" أو "الوطنية الشيعية" جديداً، وهو موجودٌ في التداول الإعلامي وأحاديث النخب منذ سنوات، وإنْ لم يكن ذا معنى واضح، أو يستخدمه كل متحدّث حسب هواه ورغبته.
حسب اطّلاعي ومعرفتي، أغلب من استخدم هذا التعبير كان يرمي إلى أهدافٍ وطنية، وليست طائفية أو "إسلامية شيعية"، وكان يقصد بها، في العموم، تلك المسؤوليات الوطنية التي يمكن أن يضطلع بها الشيعة في العراق، أو الأدوار الوطنية التي يمكن أن يقوموا بها، أو العمل داخل الفضاء الوطني، لا داخل حدود الكانتونات الطائفية والعرقية.
للأسف، احتكر الإسلاميون الشيعة منذ 2003 الحديث باسم "الشيعة"، ولم يعترفوا بإمكانية تمثيل ذلك العراقي من أصول شيعية، ولا يعمل تحت مظلة الإسلام السياسي الشيعي، ولم يعترفوا بالمجمل بكل التكوينات الفكرية والسياسية الصادرة من البيئة الاجتماعية الشيعية. فالشيعي في العراق يجب أن يكون إسلامياً، والذي يعني غالباً أن يسلّم قيادة نفسه إلى سلطة اجتماعية غير منتخبة ديمقراطياً تمثلها سلطة رجال الدين، وبالتالي، يجري إفراغ فكرة الديمقراطية وتداول السلطة من محتواها، بل وجرى في الواقع إفراغ فكرة المساواة أمام القانون من محتواها أيضاً، فهناك طبقة فوق القانون، وشبه مقدّسة، يمثلها هؤلاء الزعماء وأعوانهم الذين لا يمسّ لهم طرف، وما سواهم مواطنون يمكن أن ينطبق عليهم القانون، أو تقع عليهم ضرائب الصراعات السياسية بين "الزعماء"، أو تبعات المزاج السيئ لهذا الزعيم أو ذلك، كما فعل زعماء الشيعة مثلاً مع مواطنيهم الشيعة في تظاهرات تشرين الأول 2019، فجزروا منهم، بطيب خاطر ومن دون تأنيب ضمير، أكثر من 800 قتيل في بضعة أشهر.
الشيعي غير الإسلامي "بعثي" في نظر هؤلاء الزعماء وأجهزتهم الإعلامية، أو "منحرف العقيدة" في أفضل الأحوال، أو عميل وخائن. وبالتالي، أي نقاش بشأن واقع الشيعة السياسي أو التنظير لأدوارهم هو حقٌّ للعمامة السياسية، وليس للنخب المدنية والديمقراطية، وإنْ تحدثت هذه النخب فيجب أن تقدّم، في البداية، التقديسات والمباركات للعمامة السياسية، وألّا تهدّد نصيحتهم السياسية والفكرية سلطة هذه العمامة ومصالحها.
قبل 20 سنة تقريباً، تحدث الباحث الأميركي من أصل إيراني، ولي نصر، عن الأدوار الممكنة للشيعة في عراق ما بعد صدّام. ورأى أن نجاح النخب الشيعية، بكل تكويناتها، في إدارة نظام سياسي ديمقراطي يكفل مشاركة جميع التيارات السياسية، ويضمن حقوق جميع المواطنين، سيضمن استقرار العراق وازدهاره، وسيكون له تأثير حاسم يغيّر الدفّة السياسية في المنطقة، فهو سيقوّي من موقف الأقليات الشيعية العربية في المنطقة تجاه أنظمتها السياسية، ويساهم في اندماجهم مع بلدانهم، والتخلّص من تهمة الولاء لإيران.
وفي تظاهرت شبابية طلابية إيرانية بعد 2003 رفع المشاركون فيها شعاراتٍ تطالب بأن تتحوّل سلطة الولي الفقيه في إيران إلى ما يشبه الدور الذي تمارسه مرجعية النجف، فهي تقدّم الإرشاد ولا تقود النظام السياسي. ولكن هذه الأدوار الواعدة للنخب الشيعية انتهت، بعد 20 عاماً، إلى تجريف بالنار والحديد للغنى الفكري والسياسي في المجتمع الشيعي العراقي، لصالح هيمنة خطاب القوى الموالية للولي الفقيه وسلاحها.
بصراحة ووضوح؛ أية أدوار وطنية شيعية تعني أولاً مغادرة بارانويا صندوق الطائفة الضيّق. وثانياً؛ مواجهة أو تمايز، في الأقل، مع عقيدة الولي الفقيه الإيرانية، وما سوى ذلك، فإن أي كلام عن "وطنية شيعية" أو "شيعية وطنية" سيكون ثرثرة فائضة لن تُقنع عراقياً واحداً له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.