صربيا ـ كوسوفو: أشياء غير منتهية
أظهر الخلاف بين صربيا وكوسوفو أن الأشياء غير المنتهية يمكن أن تسبّب صداعاً مزمناً في حركية أي تاريخ. يكفي أن أساس الصراع مليءٌ بموزاييك إثني وطائفي وقومي، لم يُقدّر له الذوبان في دولة كبرى كان اسمها يوغوسلافيا، وبانيها جوزيب بروز تيتو يطمح إلى وأد تلك التناقضات ضمن مفهومٍ وطني أوسع، إلا أنه غرق في مركزية فاقعة، قوامها "بلغراد أولاً"، التي لم تتحوّل إلى مركزية مشابهة لموسكو، الحاضنة لإثنيات وقوميات وطوائف متعدّدة من البحر الأسود غرباً إلى جزر الكوريل شرقاً. فروسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، نجحت في الإبقاء على وحدة البلاد، رغم مأزق شمال القوقاز، خصوصاً الشيشان وداغستان.
غير أن النزاع في يوغوسلافيا السابقة تحوّل إلى سباق على الانفصال عن بلغراد. نجحت سلوفينيا وكرواتيا سريعاً. عانت البوسنة والهرسك بحدّة، حتى إن سلامها يبقى هشّاً بموجب دستورٍ معقّد ونظام سياسي مؤهل للانفجار في أي لحظة. مونتينيغرو ومقدونيا الشمالية عبرا معمودية نار الحروب اليوغوسلافية بسلاسة وببطء. وحدها كوسوفو وصلت متأخرة، ورفضت صربيا، خليفة يوغوسلافيا، الاعتراف باستقلالها. لكوسوفو أساساً رواية أخرى، مرتبطة بأحلام ألبانيا الكبرى، فالكوسوفيون، بأكثريتهم الساحقة، من الإثنية الألبانية، فيما تتمركز أقليّة صربية في شمال البلاد، المجاور لصربيا.
بدت الأسابيع الأخيرة من التوترات هناك، وكأنها في عام 1999، حين انتهت محاولات الرئيس اليوغوسلافي، سلوبودان ميلوسيفيتش، لقمع كوسوفو، بهزيمة ساحقة، أدّت إلى تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقصف بلغراد. انتظر ميلوسيفيتش الروس لنجدته، لكنهم فشلوا حتى في السيطرة على مطار بريشتينا في كوسوفو، وانسحبوا بعدما أدركوا أن الحلف عازم على خوض معركة ميدانية ضدهم من أجل المطار. خَلَف ميلوسيفيتش، الرئيس الصربي الحالي ألكسندر فوتشيتش، عبّر أكثر من مرة عن نواياه على خطين متوازيين: لا اعتراف باستقلال كوسوفو، والتمسّك بالتحالف مع الروس.
ومع أن فوتشيتش سعى إلى إبداء بعض المرونة في الملفين، موافقاً على خوض محادثاتٍ مع كوسوفو من جهة، وعدم تخطّي الخط الأحمر في معارضة العقوبات الغربية على روسيا بسبب غزو الأخيرة أوكرانيا من جهة أخرى، لكنه للحظة بدا وكأنه ميلوسيفيتش جديد، بزيارته المواقع الأمامية للجيش الصربي على تخوم كوسوفو الثلاثاء الماضي.
وإذا عاد الأوروبيون إلى الدفاتر الحديثة، سيجدون محطاتٍ كثيرة تمايز فيها فوتشيتش، كالاندفاع إلى الصين، والعلاقة مع روسيا، والتصرّف كيوغوسلافي، لا كصربي، في منطقة البلقان. لم تعد المسألة مرتبطة بالسيادة، بل بمحاولة فوتشيتش استغلال "اللحظويات" الحالية لإنهاء ما لم ينته في عام 1999، فالمطالبة الآن بدخول نحو ألف عسكري صربي إلى شمال كوسوفو، وفقاً لقرار مجلس الأمن 1244، لم تعد واردة لسبب أساسي، انتفاء وضعية كوسوفو من "إقليم إداري تابع لصربيا" وتحوّله إلى "دولة مستقلة"، ولو أن صربيا ونصف العالم لم يعترفوا بالاستقلال. وهذا مأزق آخر للأمم المتحدة، لأنه يستولد إشكالية ستنعكس في قضايا فلسطين وأوكرانيا وتايوان وغيرها.
أما أهم ما تطرحه مسألة كوسوفو فهو مدى تمسّك حاضر الشعوب ومستقبلها بماضٍ لا ينضب من الخلافات القومية والطائفية والإثنية، والتي بدت وهلة، بعد انتهاء الحرب الباردة في عام 1991، أنها انتهت إلى غير رجعة، لمصلحة إنسانية أكثر تقبّلاً واستيعاباً وتحرّراً من قيود تفرز بين إنسان وآخر. ولا يتعلق الأمر بماضٍ قريب، يدفع بقايا النازيين في ألمانيا مثلاً إلى الإعراب عن خيبتهم من هزيمة أدولف هتلر، ولا بوَرثَة يسار سوفييتي كان واهماً، بل يندفع بسرعة الضوء إلى قرون غابرة، حيث كانت الصراعات الدموية بمثابة نمط حياة يومي لتلك الشعوب.
قبل بضع سنوات، كان الاقتصاد العالمي أفضل حالاً، ولم تكن الغرائز الجماعية بهذا الجموح. اليوم تبدّل الوضع. البلاد والشعوب تُشبه الأفراد: حين تكون مقتدراً تغفر كل شيء، وحين تفقد أموالك تحقد حتى على ذاتك المقتدرة بالأمس.