صداقة إيران وصدقيتها
بعيداً من التحليل العملياتي لترتيبات هجمات إسرائيل العسكرية الشرسة وتكتيكاتها ضدّ حزب الله، التي انتهت إلى اغتيالات في الصفّين الأوّل والثاني من قيادات الحزب، بمن فيهم رمزه السياسي وقائده التنظيمي حسن نصر الله، أصبحت العلاقة بين إيران وحلفائها الإقليميين من الجماعات والكيانات الموالية في عدة دول عربية بحاجة إلى دراسة متأنية. والخطوة الأولى في هذا الاتجاه محاولة فهم طبيعة علاقة الارتباط بإيران أو التبعية لها من جانب تلك الكيانات. فالعلاقة بين إيران وأذرعها الإقليمية خاصّة ومتفرّدة، فهي ليست علاقةَ تبعيةٍ سياسية أو اقتصادية فقط، ولا هي مقصورة على عمالة ودور وظيفي، وإنّما هي بالأساس علاقة توافق عقائدي (مذهبي) تفضي تعاليمه ومقتضياته إلى ارتباط عضوي تتمظهر بالفعل في تبعيةٍ شبه كاملة، تتجاوز المسافات والحدود والاختلافات السياسية والديمغرافية والمجتمعية كلّها. لكنّ المدهش أنّ هذا النمط المُتفرّد من التبعية والتداخل لا ينطبق على الجانبَين، فهو أحادي الاتجاه، فتعتبر طهران أنّ ما تقدّمه إلى تلك الكيانات والأذرع، من دعم سياسي وعسكري وتمويل وإمداد بالخبرات والاستشارات، هو مُقابلٌ كافٍ وسخيٌّ للنفوذ والتأثير الذي تستمدّه طهران عبر تلك الكيانات في داخل دولها الأصلية وخارجها أو التي تنشط فيها. إذاً، أحد أوجه التفرد في تلك العلاقة هو اختلاف مقوّمات الارتباط والتباين في إدراك كلٍّ من الطرفَين (التابع والمتبوع) للآخر. سواء من منظور وثوقية العلاقة ومدى ديمومتها، أو على مستوى وزن والأهمية النسبية لكلّ من تلك الكيانات لدى طهران، بحسب موقع كلّ منها ودوره في نطاق وجوده ونشاطه، بمعيارَي الجغرافيا والاستراتيجيا.
بتطبيق ما سبق كلّه على حزب الله، ليست العلاقة مع طهران كما يبدو في الظاهر أو كما قد يتصوّر بعض متابعي التطوّرات الإقليمية أنّها قائمة على اعتماد مُتبادَل أو دور وظيفي في مُقابل مظلّة رعاية. بينما في الواقع يمكن إجمال تلك العلاقة بإيجاز في وصف واحد، وإن بدا مُخلّاً، بأن حزب الله "مسؤول أمام إيران وهي لا تُسأل عنه"، فوزن حزب الله عند طهران، أقلّ كثيراً ممّا قد يبدو في الخطاب الإيراني أو ما قد يظّنه رجال الحزب ذاته. وهو ما قد يُفسِّر، ربّما، ردَّة الفعل منخفض الحدّة الذي بدر من طهران على اغتيال حسن نصر الله، وقبله كبار قادة الحزب في الأسبوعَين الماضيَين. وقبل هذه وتلك، امتناع إيران عن الوقوف إلى جانب حزب الله لمواجهة العمليات الإسرائيلية أخيراً، بل إنّ ما كشفته التسريبات عن رفض طهران المشاركة المباشرة في أيٍّ من درجات العمل المسلّح لردع إسرائيل، يُؤكّد خفّة وزن الحزب لديها. أو ربّما تراجع قيمته وانحسارها على وقع رؤية طهران، وتقديراتها لمسار المُستجِدّات المتلاحقة في المنطقة، وربّما أيضاً الترتيبات الإقليمية الجديدة المُحتملة في المستقبل القريب. ولعلّها ليست مبالغةً إذا لم نستبعد دوراً إيرانياً ما في سلسلة الاختراقات الأمنية التي تعرّض لها حزب الله أخيراً، وبنحو غير مسبوق وغير مفهوم، بل غير منطقي. فبمدّ الخطّ على استقامته، من شأن براغماتية إيران ومنطقها في إدارة العلاقة مع الحزب، وغيره من أذرعها الإقليمية، أن تدفعها، ليس إلى عدم الدفاع عنه أو مساندته فقط، كما كان مُتصوَّراً، وإنّما أيضاً إلى غضّ الطرف والسكوت عن تقويض إسرائيل قوّةَ الحزب وهيبته، وتدمير بنيته العسكرية والاقتصادية والسياسية، بل قياداته العُليا. فحين يكون الدور الوظيفي المناط به قابلاً للإحلال أو الاستعواض بمكاسب استراتيجية أخرى، فلا مكان للصدقية، ولا أهمّية للصداقة، ويصير كلّ شيء مُباحاً.