شياطين تِسْتوسْتيرون
فلنبدأ من التاريخ القريب.
بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، اغتصب جنودُ الحلفاء نحو مليونيْ امرأة ألمانية. الجنود الروس ارتكبوا ما يزيد عن مليون اعتداء جنسي، والأميركيون نحو 190 ألفاً، والجنود البريطانيون 45 ألفاً، وأخيراً الفرنسيون 50 ألفاً، ولم يكن الأمر مختلفاً مع جنود جيوش الحلفاء الأخرى. المؤرّخة الألمانية مريام غيرهارد، أدرجت، في كتابها "عندما أتى الجنود... الاعتداءات الجنسية على الألمانيات في نهاية الحرب العالمية الثانية" أنّ الشوارع امتلأت بجثث النساء اللواتي كنّ يُعدمن لرفضهن الخضوع لمطالب الجنود، وأنّ نسبة الألمانيات اللواتي قصدن المستشفيات كانت هائلة، بحسب ما ورد في تقارير الأطباء، إذ كانت عمليات الإجهاض تجرى يومياً بشكل كبير ومتواصل.
بعد إعلانه قيام الدولة الإسلامية في سورية، وزّع تنظيم "داعش" منشور "ديوان البحوث والإفتاء" عن سبي النساء المسترقات ومواقعتهن، معتبراً السبي "ما أخذه المسلمون من نساء أهل الحرب". وقد اشتمل المنشور على 32 سؤالاً وجواباً، من بينها إباحة سبي الكافرات، كالكتابيات والوثنيات، وجواز وطء السبيّة استناداً إلى تأويل خاص للتراث الفقهي الإسلامي المُستمدّ بدوره من آيات قرآنية تُبيّن كيفية التعامل مع مِلك اليمين. هكذا شُرّع اغتصابُ آلاف النساء من سكان سورية والعراق واستعبادهن، وفي مقدمتهن اليزيديات والتركمانيات اللواتي عرفن أهوال السبْي والخطف والاغتصاب والقتل والتزويج القسريّ...
ثمّة من سيعلّق قائلاً إنّها أهوال الحروب وفظائعها التي تُفقد الإنسانَ كلّ ضوابطه الأخلاقية وتعيده حيواناً من دون رادع لا يأتمر إلّا بغرائزه، و"بعقل الزواحف" الذي كان له قبل أن يتطوّر ويعقل. ففي فترات السلام، وفي المجتمعات المتحضّرة والمتقدّمة، تتراجع هذه الأفعال كلّها لتنتظم في أطرٍ قانونية واجتماعية وأخلاقية تحدّد للإنسان، وبشكل جليّ، حدودَ الممنوع والمسموح وأصولَ التعايش والتعامل مع الآخرين. ومع ذلك، لا يغيب يومٌ من دون أن نسمع عن فضائح واعتداءاتٍ جنسيةٍ تقع هنا وهناك. فما كنّا نظنّه لصيقاً بالمجتمعات المتخلّفة، أي الجاهلة والمكبوتة والمتزمّتة، يتبدّى عصيّاً على التصنيف، عندما نجد أنّ المجتمعات المتقدّمة، والغربية منها تحديداً، حيث يحتل الجنسُ الثاني الفضاء العام ويتشاركه مع الرجال، وحيث حرية إقامة علاقات جنسية متاحة إلى حدّ بعيد، تعاني من الآفة نفسها، فنسمع باستمرار عن فضائح جنسية مهيبة تخضّ المجتمع، وتستدعي ردود فعل مستنكرة لدى الرأي العام. وما حركة "مي تو" (أنا أيضاً) التي انطلقت في شكل وسم احتلّ وسائل التواصل في العام 2017، حين غرّدت ملايين النساء حول العالم، معلناتٍ ما تعرّضن له من انتهاك وازدراء، إلّا أكبر دليلٍ على استفحال هذي المشكلة، ناهيك عن دوام انتشار عديد من حملات التوعية ضد العنف الجندريّ بكلّ أشكاله، وهو عنفٌ بات يبلغ بسهولة أحياناً حدَّ القتل.
مع ذلك، يبقى السؤال: ما الذي يدفع رجلاً بالغاً، مكتمل العقل، حرّاً، وقادراً على إقامة علاقات جنسية من دون الاضطرار إلى غصب الطرف الآخر، إرغامه أو استفزازه، لأن يرتكب انتهاكاتٍ واعتداءاتٍ تقضي على سمعته وحياته في الحدّ الأدنى، أو تؤدي به إلى دخول السجن؟ نقول هذا مستذكرين المنتجَ الهوليودي، هارفي واينستين، الذي ادّعت عليه 90 امرأة، منهن ممثلات شهيرات، والمخرج من أصل بولندي رومان بولانسكي الذي اغتصب قاصرة أميركية في سن 13 سنة، والصحافي والكاتب الفرنسي، باتريك بوافر دارفور، المتهم بالتحرّش بـ23 امرأة، والمغني سعد المجرّد الذي تكاثرت ضده دعاوى الاغتصاب، والراحل مايكل جاكسون الذي كان يتحرّش بالأولاد، والوزيرين الفرنسيين الأسبقين، دومينيك ستروس كان، ونيكولا هولو، المتّهمين هما أيضاً بالاغتصاب، والكاهن اللبناني منصور لبكي، المتحرّش بيتيمات قاصرات (وبابنة أخيه حتى) وقد قضت محكمة فرنسية بسجنه 15 عاماً، وبإدراج اسمه في سجل مرتكبي الجرائم الجنسية.
هل يصحّ القول إنّ هؤلاء، وكثراً سواهم ممن لا تتسّع العجالة هنا لذكرهم، أو ممّن لا تجرؤ ضحاياهم على البوح بأسمائهم في مجتمعاتٍ تعتبر المرأة هي دائماً المخطئة، ليسوا سوى دمى تحرّكها شياطينُ هرمونات الذكورة، التستوستيرون، وقد خَصَتْ عقولَهم ومحت ضمائرَهم؟