شيء من مكر التاريخ وعبثه

16 فبراير 2022

(رافع الناصري)

+ الخط -

لعلّ من مكر التاريخ وعبثه أن يستعيد البعثيون والشيوعيون في العراق ذكريات الصراع الدموي الذي عاشوه في أعقاب ثورة 14 تموز (يوليو 1958) التي قضت على النظام الملكي، وأن يحمّل كلّ طرف الطرف الآخر مسؤولية إطلاق عمليات تبادل الدم بالدم بينهما. ومناسبة استعادة تلك التداعيات السوداء مرور 59 عاماً على حدث الثامن من فبراير/ شباط عام 1963 الذي يسميه البعثيون "عروس الثورات" فيما يعتبره الشيوعيون انقلاباً عسكرياً أعاد العراق إلى الوراء.

ليست هذه نقطة الخلاف الوحيدة التي ظهرت في سجالات هذا العام على مواقع التواصل، إنّما تناسلت الأسئلة من قماشة: من بدأ مسيرة الدم؟ من زرع بذرة الخلاف والاختلاف بين الحزبين، وقد كانا قد ائتلفا في "جبهة وطنية" إلى جانب أحزابٍ أخرى، قبل أن يشتركا معاً في أول حكومة "جمهورية" دبّ الخلاف بين أعضائها قبل أن يجفّ الحبر الذي كتبت به مراسيم تشكيلها، ومن ثم أيضاً ما الذي جعل "الرفاق" يتنازعون أمرهم بينهم، وسرعان ما تفرّقوا أيدي سبأ، ولم يجدوا ما يحتكمون إليه سوى الدم؟

تحوّل الخصم في الرأي والفكرة إلى عدو يجب القضاء عليه

إنّه "مكر التاريخ" الذي قال هيغل إنّه يظهر عندما تكون حصيلة عمل امرئ ما غير ما فكّر فيه وسعى إلى تحقيقه، وهو ضربٌ من العبثية قد يتجسّد على وطأة مسيل الدم، وانهيار القيم، وخراب البلاد، وهذا ما شهده العراقيون منذ "سقطت المدينة" بعد "14 تموز"، وبدأت قيم التحضر والمدنية بالانحسار شيئاً فشيئاً، وتراجع دور الطبقة المتوسطة في كلّ مرافق المجتمع ومؤسساته، وأيضاً داخل الأحزاب والحركات السياسية، وترافقت مع هذا التحوّل موجة "شعبوية" حفزت كلّاً من الحزبين، الشيوعي والبعث، على الزعم إنّه مفوض، دون غيره من الأحزاب، للتعبير عن روح الشعب وحركته الصاعدة. وبهذا المنطق، كان الحزب يغادر الحوار، ويتنكّر للرأي الآخر، ويحتكر لنفسه ما يراه حقيقةً قد لا يقرّ بها الخصم، ويتطلع إلى السيطرة على الفضاء السياسي وحده، هنا تطوّرت الحكاية، تحوّل الخصم في الرأي والفكرة إلى عدو يجب القضاء عليه، ودخلت نظريات "المؤامرة" و"العمالة للأجنبي" و"التجسّس" إلى آخر "المونولوغ" لتضفي على البلاد مناخاً من التعصّب والثأر ومبادلة الدم بالدم!

وقد انزلق المثقفون والأدباء والشعراء نحو هذا المنحى، وتحوّل بعضهم إلى كتّاب "لافتات" تمجّد العنف، وتدعو إلى قتل الآخر المخالف أو المختلف. في حينها توعد الشاعر عبد الوهاب البياتي الخصوم بأن "يجعل من جماجمهم منافض للسجاير"، وكتب الشاعر الجواهري قصيدة خاطب بها حاكم العراق آنذاك، الزعيم عبد الكريم قاسم: "فضيّقِ الحبلَ واشددْ في خناقهمو/ فربما كان في إرخائه ضررُ/ تصوّرِ الأمر معكوساً وخذْ مثلاً/ في ما يجرونه لو أنّهم قدروا". وردّ البعثيون على خصومهم منذرين ومفاخرين بأنّ "وطناً تشيّده الجماجم والدمُ/ تتهدّم الدنيا ولا يتهدّمُ"!

في كلّ مرّة يتبادل فيها الجلادون والضحايا أدوارهم، يخسر العراق مئاتٍ ممن لا يمكن الشك في وطنيتهم وإخلاصهم لبلدهم

في ظلّ هذا المناخ "المبرمج" الذي ساد العراق آنذاك تفجرت مجازر الدم، بدايتها كانت في الموصل، إذ أقدم الشيوعيون، في أعقاب فشل تمرّد عسكري قاده أحد الضباط القوميين، في مارس/ آذار من عام 1959، على تشكيل "محاكم شعبية" قضت بقتل عديد من شخصيات المدينة، بدعوى تعاطفهم مع حركة التمرّد، وجرى تعليق (وسحل) جثث من وصفتهم صحيفة الحزب بأنّهم "مجرمون قتلة"، واعتبرت ذلك "درساً قاسياً للمتآمرين وضربةً في وجه دعاة القومية". وتكرر الأمر في كركوك، بعد شهور من واقعة الموصل، حيث تم قتل عشرات من أبناء المدينة التركمان وسحلهم بأيدي مناهضين لهم من الشيوعيين والأكراد. في حينها تساءل عبد الكريم قاسم: "هل فعل جنكيز خان أو هولاكو مثل فعلتهم؟".

لكنّ الأقدار لا تسير على نحو مستقيم إلى آخر الشوط، وهذا ما حدث عندما قدّر للبعثيين أن يصلوا إلى السلطة، وحانت فرصة الانتقام من خصومهم على نحو ممنهج، إذ جرت محاكمات صورية لعشرات من القادة الشيوعيين وأنصارهم، وتعرّض العديد منهم للقتل والإبادة.

وهكذا، في كلّ مرّة يتبادل فيها الجلادون والضحايا أدوارهم، يخسر العراق مئاتٍ ممن لا يمكن الشك في وطنيتهم وإخلاصهم لبلدهم. ويبقى في النهاية سؤالٌ أكبر من كلّ الأسئلة التي طرحتها سجالات مواقع التواصل: أما آن الأوان للحزبين اللذين ما زالا في الساحة، على الرغم من الضربات التي أثخنت جسديهما أن يبادرا للاعتذار بعضهما من بعض، وقبل ذلك الاعتذار من شعبهما عما ارتكباه من أخطاء وخطايا؟

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"