شمولية التغيير لا جزئيته
من يعتقد أن التغيير يقتصر فقط على إطاحة السلطة في أي بلد، من دون تمدّده إلى مختلف القطاعات العامة والخاصة فيه، يكون مخطئاً. تونس نموذجاً. منذ إحراق محمد البوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، شهدت تونس قفزاتٍ ديمقراطيةً عدة، نادرة عربياً، لكنها في المقابل لم تنجح بعد في تحقيق المصالحة مع الشعب اقتصادياً واجتماعياً. وبمعزل عن تداعيات تفشّي فيروس كورونا السلبية على اقتصاد البلاد، إلا أن تونس لم تضع الأسس الفعلية لإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية. لذلك، حصول الاحتجاجات أمر حتمي، ويُسهّل أيضاً حدوث اختراقاتٍ استخباريةٍ وأمنيةٍ، تزعزع البنيان السياسي.
الدرس التونسي أساسي للجوار في شمال أفريقيا وصولاً إلى كل الدول العربية. كيف يُمكن الدعوة إلى التغيير في أي بلدٍ من دون تحديد أهداف واضحة فيه، تبدأ من تأسيس وضعية اقتصادية ـ اجتماعية صلبة ومكافحة الفساد وإرساء عقلية مغايرة للأزمنة الماضية؟ وأيضاً، في الشق السياسي، كيف يمكن تطوير المنظومة الديمقراطية، ما لم تُمنح الفرص للجميع فيها؟ كما حصل في بعض بنود مسوّدة القانون الانتخابي الجزائري الذي أقرّ وجود عتبةٍ انتخابية تمنع دخول بعض أركان "حراك فبراير" 2020، البرلمان. هنا، لا بدّ حينها للأطراف الليبية، الساعية إلى تكريس مرحلة سياسية في البلاد، الاتعاظ من الأخطاء التونسية والجزائرية، خصوصاً أن أي خللٍ في الحالة الليبية سيودي بالبلاد إلى حربٍ أهليةٍ جديدة، تحديداً إذا ما كان السلام جديداً ويحتاج الوقت لتعزيز الثقة بين أطرافه.
أما في دولة مثل لبنان، فإن بعض من يدعو إلى التغيير يسوّق عودة أطرافٍ سياسيةٍ ساهمت في تدمير البلاد وسرقتها، على اعتبار أنها "المنقذة". وبعض آخر يعتبر أن المشاركين في السلطة حالياً هم "أنقياء القلوب". في الواقع، يعدّ لبنان أمثولةً مدمّرة للتشارك في السلطة بين الطوائف والمحاور الإقليمية وأمراء الحرب ورجال الأعمال ورجال الدين. ويُفسح هذا التشارك المجال لاستنساخ دورة لامتناهية من الفساد المستشري والحروب، مبنيةٍ على المحافظة على امتيازات الأطراف المذكورة، على حساب المواطنين. ولمن يتابع الأخبار اللبنانية، يرى كيف تتقاسم تلك الأطراف الدعوات إلى الإصلاح، من دون تطبيق، فقط لإظهار "براءتها" مما حصل في البلاد. وقد انعكست تلك الذهنية من الممارسة السياسية سلباً على الذهنية الاجتماعية، فلم تعد الأمور تتمحور حول "كما تكونون يولّى عليكم" فحسب، بل أيضاً في سياق "الاستعباد الذي يؤدّي إلى التدجين، وصولاً إلى دفاع المُدَجَّن عن زعيم أو حزب".
يختلف منطق التغيير بين دولة وأخرى، وفقاً لركائزها ولتطورها. وكلما كانت الركائز صلبة ومتوافقا عليها كان التغيير سلساً وسريعاً. في الحالة الأميركية مثلاً، بلغت قوة أساسيات النظام حداً يستطيع فيه أي رئيس نقض قرار رئيس سابق، من دون تدمير البلاد. الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أخرج بلاده من اتفاقيات دولية في سنوات حكمه الأربع، بينما عاد إليها الرئيس الجديد جو بايدن، في يومه الرئاسي الأول، في 20 يناير/ كانون الثاني الحالي. هذه المفارقة في صياغة القرارات الأميركية تدعم قوة النظام والدولة، ولا تهدّ المرتكزات الاجتماعية.
في المقابل، يجب أن ينطلق التعامل مع الدول العديمة الركائز من قاعدة أنها "دولة في طور التشكّل"، لأن عملية الترقيع الدولتي بين نظامين، سابق وآخر تغييري، لن تؤدّي غرضها في سياق إيجابي، كما يتمنّى الداعون إليه. والقطع بين نظام يستنزف الشعب وبناء آخر جديد يبقى حاجة لدول مثل لبنان. بالطبع، ليس من السهل وضع حدّ للماضي وبناء المستقبل، وقد يأخذ الأمر وقتاً غير قليل، لكن الموضوع لا يتصل بما نملكه من خيارات، بل بحتمية الأمور. يمكن أن نشيح بأنظارنا تحت ذرائع مختلفة عن هذه "الحتمية"، لكننا لا نقدر على منعها أو الوقوف بوجهها، بل نحتاج المشاركة في صياغتها.