شمس الدين الكيلاني... اتجاهات وخرائط مفكّرين عرب
انطلق الباحث القدير شمس الدين الكيلاني في كتابه "مفكّرون عرب معاصرون: قراءة في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2016)، من محاولة فهم تخلف العالم العربي عن فرصة التغيير التي أتاحتها نهاية الحرب الباردة؛ بانهيار نظم استبدادية عديدة في أوروبا الشرقية برفقة تداعي الاتحاد السوفييتي، وحاول التعرّف إلى تفسيرات المراقبين للعقبات الكأداء أمام التحوّل العربي نحو الديمقراطية وتوطين حقوق الإنسان في الحياة العربية؛ إذ توزّعت وتنوّعت، فهناك من رأى تضافر العوامل الداخلية، إضافة إلى أن الطابع شديد المركزية للدولة العربية، وارتكازها على اقتصاد ريعي، وهيمنتها على قطاعٍ واسعٍ، شكّلت القاعدة الاجتماعية والمادية لنفوذها وتأثيرها، فيما ركّز آخرون على افتقار البلدان العربية إلى هيكليةٍ طبقيةٍ مستقلةٍ ذاتيًّا تمثل القاعدة الاجتماعية للتحديث، وكذا ضعف الطبقات الوسطى الليبرالية التي يمكن أن تبادر في حال وجودها في الوسط السياسي إلى زحزحة الأنظمة الشعبوية ـ الاستبدادية. كذلك تداول باحثون الإطار التفسيري الاجتماعي، حيث فسّر هشام شرابي ما أسماه ركود المجتمعات العربية بمفهوم النظام الأبوي. وهناك الاتجاه الليبرالي العلماني الذي ركّز على تخلف البنى الاجتماعية والوعي الاجتماعي العربي. وبالتالي افترض هذا التحليل واجب الانخراط في الحداثة على الصعيدين، الاجتماعي والذهني، وإحداث نسقٍ يتطلب الديموقراطية وحقوق الإنسان.
ويرى الكاتب أن الإطار التفسيري الأكثر شيوعًا وخطورة، هو الذي ركّز على العامل الثقافي فحسب، بوضعه الثقافة الإسلامية في موقع العقبة الجوهرية أمام قيام الدولة الديموقراطية. ويرجع الكاتب جذور هذا التفسير إلى الاستشراق الكلاسيكي الذي نظر إلى الثقافة العربية الإسلامية جوهراً ثابتاً لا يتغير؛ ملتقياً بذلك مع وجهة نظر السلفية والأصولية الإسلامية التقليدية والسلفية الجهادية أيضاً، وهو تفسيرٌ يجعل الديمقراطية على النقيض من الإسلام، ويوضِح هذا التفسير بالقول إنه قد يكون مردّه استجابة للاعتقاد بـ"استثنائية عربية"، أي الاعتقاد بأن هناك طابعاً استثنائياً مزعوماً لثقافة المجتمعات العربية الإسلامية يجعلها تلفظ الدولة الديمقراطية، ويبحث الكاتب في هذا التفسير ويتساءل عن حقيقة أن الإسلام، ديناً وثقافة، عقبة حقيقية أمام توطين الديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان، مشيراً إلى أن هذه الأسئلة، في جانب منها، تعمل على رفع المسؤولية عن الفاعلين السياسيين والاجتماعيين العرب المعاصرين، وتبرئتهم من مسؤولية تقصيرهم تجاه توجيه مجتمعاتهم نحو تبنّي النظام الديمقراطي التمثيلي.
قدّم المسلمون إجابات مبتكرة عن إشكالية الدولة وحقوق الإنسان في ضوء تغير الزمان أمام ما فرضه الغرب وحداثته من تحدٍّ على مجتمعاتهم
عمل شمس الدين الكيلاني على تسليط الضوء على الصلات الكثيفة والمعقدة والمتبادلة بين الثقافة السياسية عند المسلمين والديمقراطية وحقوق الإنسان، ليتبيّن أن هذه الثقافة بعيدة جداً عن كونها ظاهرة غير متغيرة وغير منوّعة. وأشار إلى أن تفكير الجماعات في الإسلام يتأثّر بعوامل التغير الاجتماعي التاريخي، وأن المسلمين، مثل غيرهم من الجماعات، لا يمكن فهم أفكارهم إلا في سياق علاقتهم بتطوّر حياتهم الاجتماعية التاريخية. كذلك اهتمّ بالخلاصات التي توصّل إليها الباحثون المعاصرون الذين زاوجوا بين قراءتهم النص وقراءتهم التجربة السياسية الإسلامية الفعلية لا المتخيلة، ورصد دخول مفاهيم حقوق الإنسان إلى الحقل التداولي للفكر العربي والإسلامي مع البدايات الأولى لتأثير أوروبا الثقافي في هذا الفكر، في القرن الثامن عشر، وترافق ذلك الاستجلاب لأفكار الحداثة الأوروبية مع إدراك النخب العربية والإسلامية تأخّر بلادها قياساً بتقدّم أوروبا.
استعرض الكاتب ما سماها "إعادة التفكير في الدولة وحقوق الإنسان في ظل تحدّيات الحداثة الغربية للفكر العربي"، منوّهاً بما قدّمه المسلمون من إجابات مبتكرة عن إشكالية الدولة وحقوق الإنسان، في ضوء تغير الزمان أمام ما فرضه العرب وحداثته من تحدٍّ، على مجتمعاتهم. وابتدأ ذلك بالإشارة إلى أن مفهوم الدولة غريبٌ عن المدوّنة الفكرية الإسلامية التقليدية، واستعرض مواقف الفكر العربي الإسلامي منذ الاحتكاك الغربي بهذه المسألة، وصولاً إلى رصد التطوّرات التي دخلت عليها عقب الربيع العربي، ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، مؤكّداً أن هذه التجربة ستقود إلى انقساماتٍ عميقة في صفوف الإسلاميين. وأشار إلى مسألة حقوق الإنسان، واستهلّ ذلك بالحديث عنها عند المسلمين النهضويين، مؤكّداً أنهم لامسوا، على اختلاف نبرتهم، مسائل حقوق الإنسان والدولة تحت ضغط الثقافي الأوروبي. وانصبّ جهدهم في المزاوجة بين ما يتضمنه تاريخهم الفكري والفقهي والمقاصدي والتجربة والمعارف الغربية. ومن ضمن ما توصل إليه هذا التيار، ويطلق عليه الكاتب "فقه المصالح الإنسانية"، مفاهيم؛ المواطنة، والدستور، وحرية المرأة، وانفتاح الإسلام على العالم، الأمر الذي نتج منه تراجع أهمية المقولات الفقهية القديمة عن دار الإسلام ودار الحرب، ووعي الإصلاحيين بحضارة الغرب، باعتبارها حضارة العصر والعالم، وقالوا بضرورة الإفادة منها.
ذهب مفكّرون مسلمون كثيرون إلى مواءمة إيمانهم الإسلامي، مع تبنّيهم مفاهيم حقوق الإنسان العالمية العصرية، فلم يجدوا تعارضاً في الدمج بين هذين الحقلين
كانت لدى المسلمين المعتدلين إجابة جاهزة، أن الإسلام نصّ على حقوقٍ للإنسان صالحة لكل زمان ومكان، وهو يملك مرجعيته الخاصة التي لا يجمعها جامع بالحقوق التي نتجت من الحداثة الغربية، خصوصاً في ظل النفاق والتعالي ونبذ حقوق الآخرين وانتقائية المواقف وازدواجية المعايير التي اتسم بها النشاط السياسي والفكري للحكومات الغربية. وعند المسلمين المتشددين، تحوّلت مفاهيم حقوق الإنسان إلى واجباتٍ تجاه الله، وغدت الدولة ثيوقراطية استبدادية باسم "حاكمية الله". أما الحداثيون فقد نبذوا المعايير الإسلامية أو معايير الخصوصية الثقافية لمصلحة عالمية حقوق الإنسان ذات المرجعية الأوروبية المرتكزة على فلسفة التنوير، فيما حاول التوفيقيون التواؤم بين الإيمان الإسلامي وتبيئة حقوق الإنسان المعاصرة، فذهب مفكّرون مسلمون كثيرون إلى مواءمة إيمانهم الإسلامي، مع تبنّيهم مفاهيم حقوق الإنسان العالمية العصرية، فلم يجدوا تعارضاً في الدمج بين هذين الحقلين. أما عند المصلحين الإسلاميين، فقد برزت داخل هذه الدائرة اتجاهاتٌ تجديديةٌ توائم بين المفاهيم الحديثة لحقوق الإنسان والدولة والإسلام، وارتكزت فكرتهم في الإصلاح على التفريق بين الآيات القرآنية التي نزلت في مكّة وتلك التي نزلت في المدينة. وفي حقيقة الأمر، لم نتبيّن على أي قاعدة أو معيار اعتمد الكاتب تلك التصنيفات من معتدل ومصلح. كذلك تناول هذه المسألة عند بعض الكتّاب المسلمين بمفردهم، من دون أن يصنفهم في تيار مثل سعيد العشماوي، وعبد المعطي بيومي؛ خصوصاً حينما نطالع كتابات المستشار العشماوي الذي ارتكب أخطاءً منهجية فادحة في حديثه عن المصادر وفائض تعميماته والنتائج التي توصل إليها من دون تدقيق أو تحقيق.
واستعرض الكاتب وجهة نظر مفكرين عرب معاصرين في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان، مؤكّداً أن الفكر العربي الحديث السائد نظر إلى الدولة القائمة باعتبارها أداةً أو وسيلةً لهدف أكبر يتخطّاها؛ حيث نظر إليها الماركسي باعتبارها حاملةً أهداف الطبقة المسيطرة، ومعبرة عن الصراع الطبقي الاجتماعي، وخارجة من رحم الملكية الخاصة وصراع الطبقات، وتعامل معها المثقف القومي بازدراء واستخفاف، باعتبارها جسراً مؤقتاً لبناء الدولة القومية العتيدة الجامعة، كما أن الإسلامي لم ينظر إلى الدولة القائمة إلا باعتبارها عقبةً أمام الدولة الإسلامية. واستعرض الكاتب نماذج لهذه التصنيفات، مثل عبدالله العروي (الدولة السلطانية وطوبى الخلافة ومفاهيم حقوق الإنسان)، ووجيه كوثراني (في التجربة السياسية الإسلامية: علاقة المؤسّسة السياسية بالدينية)، ورضوان السيد (إضاءات على تحولات السلطة وحقوق الإنسان في الإسلام)، ومحمد عابد الجابري (الدولة وحقوق الإنسان في الإسلام)، وبرهان غليون (من نقد دولة الحداثة العربية إلى نقد مفهوم الإسلاميين المعاصرين للدولة)، وعزمي بشارة (الدولة في علاقتها بالإسلام)، وحسن حنفي (من التراث والتجديد، نحو اليسار الإسلامي ودولته).
وهكذا رصد شمس الدين الكيلاني الاتجاهات الفكرية في محاولتها للإجابة عن سؤال محوري: هل شكّل الإسلام عقبة كأداء أمام الديموقراطية وحقوق الإنسان؟