شطرنج الحرب الأوكرانية
منذ بداية الحرب في أوكرانيا قبل أكثر من ستة أشهر، تدور تطوراتها في سياق الفعل وردّة الفعل، فكل طرفٍ يترقب حركة الطرف الآخر لقياس الخطوة التالية في إطار تصعيد هذه الحرب، تماماً كما هو الحال في لعبة الشطرنج.
في الأيام الأخيرة، اتضح أكثر مدى تطابق اللعبة مع ما يجري على الأرض، وفق أدوات مختلفة يملكها كل فريق لحشر الآخر في الزاوية وانتظار حركته المقبلة، بداية من استعمال سلاح الغاز ثم الهجمات المضادّة والتعبئة العامة، والآن الضم، وصولاً ربما إلى الخيار النووي الذي لا يتوانى الروس عن التلويح به.
من النظر إلى رقعة المعارك وتطوراتها، لا يمكن إلا تبيان أن روسيا في موقفٍ حرجٍ لا تحسد عليه، لكن لا يزال لديها بعض الحركات التي يمكنها إيلام الخصوم، ولا سيما الأوروبيين. الغاز هو واحد من الأسلحة الفتاكة التي اعتمدت عليها روسيا في الرد على التحركات الغربية التي أفشلت "خطة نابليون" الشهيرة في عالم الشطرنج، والتي تقضي على الخصم في ثلاث أو أربع حركات. فقد بات معلوماً أن حسابات الغزو الروسي لأوكرانيا كانت قائمة على الوصول إلى العاصمة كييف خلال شهر كحد أقصى، وإطاحة حكومة فولوديمير زيلينسكي، وتعيين حكومة موالية لموسكو، والعودة إلى القواعد بالحد الأدنى من الخسائر. غير أن الحركات الغربية أسقطت الحسابات الروسية، وأدخلت موسكو في دوّامة من الاستنزاف، خسرت بموجبها حتى الآن، وباعتراف وزارة الدفاع، أكثر من خمسة آلاف جندي روسي، وهو بالتأكيد ما لم يكن في حساب قيادة الكرملين.
خلال الشهور الماضية، لجأت الأطراف إلى كل الاستراتيجيات الممكنة لضمان إنهاء الحرب لصالحها، غير أن كل المحاولات لم تفلح في "إنهاء اللعبة". المحاولة الأخيرة كانت بالهجوم المضادّ الذي شنه الأوكرانيون على المناطق التي استولت عليها روسيا، مستفيدين من تدفق السلاح الغربي الكاسر للتوازن مع الترسانة الروسية، وهو ما دفع موسكو إلى حركة "إعلان التعبئة" لصد التقدّم الأوكراني. روسيا لم تكتف بذلك، بل عمدت إلى هجوم مضادّ آخر عبر الإعلان عن ضم أربع مناطق أوكرانية إلى السيادة الروسية، وهي دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا، وذلك بعد استفتاءات شعبية أجريت على عجل، وفق الحاجة الروسية إلى مكاسب على رقعة الحرب.
الحركة الروسية الأخيرة وضعت الغرب في حرج، لا سيما أنها تأتي بعد تحذيرات كثيرة، من الولايات المتحدة تحديداً، من تداعيات الإعلان الروسي عن ضم أراض أوكرانية. تحذيرات لم تلق أذاناً صاغية في موسكو التي أقدمت على الضم، منتظرة الحركة الغربية المضادّة. الخيارات الغربية في الرد على موسكو محدودة، خصوصاً في ظل الجزم الغربي بعدم التدخل المباشر في الحرب الأوكرانية، والاكتفاء بدعم البيادق الأوكرانية بالأسلحة والعتاد. واحدة من خيارات الرد كانت التوجه إلى مجلس الأمن الدولي، والذي فشل في إدانة قرار موسكو بضم المناطق الأوكرانية، بعد فيتو روسي أسقط مشروع القرار. ويمكن القول إنه إضافة إلى التنديد والوعيد، فإن هذا قد يكون سقف الرد الغربي على خطوة الضم، بعدما استنفد كل أوراق العقوبات والتسليح والتي لم تزد الحرب إلا استعاراً.
يعلم الغرب خطورة الدخول في صدام مباشر مع الروس، كما يدرك محاذير حشر "الملك الروسي" في الزاوية، ويفضل إنهاء اللعبة بالتعادل من دون قتل الملك، ولكن بعد تحجيمه وتفريغه من كل الأسلحة التي يمكن أن يستخدمها، خصوصاً أن هذا "الملك" يمكن أن يقلب رقعة الشطرنج على الجميع، وسبق له أن أعلن نيّته القيام بذلك في حال بات وجوده مهدداً.
غير أن الرغبات الغربية لا تتماشى مع تطورات اللعبة/ الحرب، والتي لا تنفكّ تسير باتجاه تصعيدي لا أفق لنهايته. الدور في اللعب الآن على الجانب الغربي، والذي عليه أن يضع الكثير من الحسابات في الاعتبار قبل الإقدام على تحريك أي حجر على رقعة شطرنج الحرب الأوكرانية.