شرق أوسط جديد
استخدمت إسرائيل أسلوب التحشيد الإعلامي والعسكري، تمهيداً للهجوم على غزّة، ومحاولة استئصال حركة حماس، وسط ضجيج وتحليلات كثيرة عن تغيّرٍ كبير يمكن أن يطاول الشرق الأوسط كله. تستند هذه التحليلات إلى إمكانية توسّع ميدان الحرب، ليشمل سورية وحزب الله وربما إيران، وحتى روسيا، باعتبارها موجودة عملياً في المنطقة، ويتحضّر الطرفان، الإسرائيلي والأميركي، بالفعل قبل البدء بالهجوم على غزّة، فقد دفعت الولايات المتحدة بالأسطول السادس إلى مياه المتوسّط الدافئة، وهذا الأسطول قوّة هائلة، تتكوّن من حاملتي طائرات على متنهما 175 طائرة وسفينة إنزال وأربع غواصات و15 مدمّرة وخمس سفن هجومية وخمسة طرّادات. ويشغل هذا الحشد العسكري أكثر من عشرين ألف شخص، وهي قوّة ذات قدرة نارية هائلة تُرابط حالياً على مقربة من شرق المتوسط، مما يعني أن الشرق الأوسط كله بالفعل أمام تهديد بتغيير ثوابته التقليدية، بدليل هذا الحشد العسكري، بالإضافة إلى ما يقرب من نصف مليون جندي احتياطي تجمعهم إسرائيل تمهيداً لحربها المقبلة، وقد بدأت بمسح أحياء في غزّة، كما حطّمت مدرّجات مطاري دمشق وحلب، واتّخذت احتياطاً عسكرياً مكثفاً في الشمال قبالة حزب الله.
يريد التحالف الذي يتشكّل حالياً حول إسرائيل تحييد روسيا، من خلال وضع الأسطول السادس على أهبة الاستعداد، وقطع طرق إمدادٍ محتملة عبر مطارات سورية، والسيطرة النارية على جنوب لبنان، حيث الخطر كبير من حزب الله، لتبدأ بعدها إسرائيل دخول غزّة بعد عزل الجبهات المحيطة. ولكن هل يكفي دخول غزّة، وربما تقطيعها بالمفارز العسكرية الإسرائيلية، بما يفقدها هويتها الجغرافية، حتى يتغيّر الشرق الأوسط؟
إعادة احتلال غزّة هو عملياً عودة إلى الوراء، وبالتحديد إلى ما قبل أغسطس/ آب عام 2005، حين قرّرت إسرائيل فك الارتباط من جهة واحدة، وترك غزّة وشأنها، لتجد نفسها بعد ما يقارب 20 عاماً تعود إليها. لا تمتلك الجارة سورية عملياً ما يمكنه صدّ هجمات إسرائيل الجوية، وهي غير قادرة على القيام بأي مبادرة عسكرية. وتشكِّلُ حسابات الداخل اللبناني بالنسبة لحزب الله أولوية، وبالتالي ما يمكن أن تُحدثه هذه الحرب هو إضافة عقدة جديدة إلى تعقيدات الشرق الأوسط.
استغرق الأمر نصف قرن تقريباً وحربيْن عالميتين ومعاهدات دولية عدّة، قبل أن تتحدّد معالم الشرق الأوسط الحالي، ثم خلا هذا الشرق من الاستعمار بمفهومه القديم، وتسلّمت قيادة البلاد سلطات "وطنية" ذات أشكال عسكرية غالباً، أو ممالك تمارس السياسة بشكل مباشر، ولم تفلح الثورات العربية التي انفجرت على مرحلتين منذ عام 2010 في تغيير المعادلة التي يقوم عليها الشرق الأوسط. سقط الحكّام في مصر وتونس وليبيا واليمن، وغرقت سورية في أتون حربٍ مدمّرة، وبقيت في جميع هذه الدول بنية النظام نفسها التي تقوم على معاداة الديمقراطية، وعلى النمط الاستهلاكي، وانتشار الفساد، والاعتماد بشكلٍ مُفرط على الدعم الخارجي، ولم تفلح كذلك الثورات في أفريقيا التي جرت في التسعينيات بزحزحة المعادلة عينها، رغم ارتباط الشرق الأوسط بشكل وثيق بأفريقيا وسرعة تأثّره بما يجري فيها، وشهدت أفريقيا في الآونة الأخيرة موجة ثانية من التغييرات التي رعاها العسكر على شكل انقلاباتٍ من دون أن يكون هناك دليل واحد على أن النظم الشرقية يمكن أن تتزحزح عن تقاليدها التي أرستها الاتفاقيات قيد شعرة. ورغم مرور هذا الشرق بنفق انهيار الشيوعية، وما أحدثه ذلك من جلبة وفوضى عارمة، لكن كل شيء بقي على حاله، وطوّرت، مع الوقت، بلدان الشرق مناعة ضد التغيير. والآن بعد عملية طوفان الأقصى، يجري الحديث عن تغيّرٍ في الشرق الأوسط، فهل يكون هذا الزلزال العسكري من القوّة بحيث تميد الأرض ويحدث التغيير بالفعل؟ وفي أي اتجاهٍ سيكون؟