شخصياتٌ ... بغيضة
لا أذكر أني قرأت أدبًا باللغة العربية فيه تكريس أو تركيز على شخصياتٍ بغيضة، تأتي مرسومة بعناية وبدقة. وقد اختارها الكاتب لتكون بطلة عمله بالمطلق، ومع ذلك، تمكّن القرّاءُ من التعلّق بها. قد أكون مخطئة. ولكن في حدود قراءاتي، الشخصيةُ البغيضة، أو الشريرة إذا صحّ التعبير، لا تأتي إلا كصورة نيغاتيف مُساعِدة، يكون الهدفُ منها دفْعَ البطل الرئيس إلى المقدّمة لتظهير إيجابياته، تلك التي تندرج ضمنها ملامحُ شخصيات متنوّعة، من بينها: المثالي، والوحداني، والمقموع، والفقير، والعطوف، والمتواضع، والشجاع، والذكي، والمتمرّد، وغريب الأطباع، والمضحك... إلخ. فهل يأنف الكاتبُ (العربيّ) تكريسَ مثل تلك الشخصيات المضادّة، غير الحاملة أية قيم أخلاقية أو جمالية، لأن الروائي، كما هو شائع، يحتاج أن يحبّب شخصياته ليتمكّن من كتابتها، أم أن الأمر عائدُ، في الحقيقة، إلى وقوعه أسير منظومة قيم اجتماعية ودينية رادعة تجعله يخشى الخلط بينه وبين شخصياته في ذهن القارئ؟ تبقى فرضية ثالثة، أنه ربما كان في الحقيقة ضحية رقيب داخلي صارم يردعه عن النبش والحفر في مناطق الظلّ الكامنة في نفسه، لا بل في كل نفسٍ بشرية، وقد يكون الأثر الذي تخلّفه قراءة أعمال الماركيز دو ساد الأفضل تعبيرا عن المقصود قوله هنا، حيث يتكشّف للقارئ، النافر إلى أبعد حدّ من موضوع قراءته، شعوره بشيءٍ من لذّة ممنوعة مستترة تجعله مستمتعا باستكشاف البغيض وسبْره، وهو ما يُربك بطبيعة الحال ويتسبّب بالخوف.
والحال أن الآداب الغربية والعالمية باتت تكذّب النظرية القائلة إن حُبَّ الشخصية الروائية شرطٌ للإجادة في كتابتها، والأهمّ من ذلك الجزم بأنه شرط ضروري لوقوع القارئ في هواها والتعلّق بها والإقبال على قراءتها. الأمثلة من حولنا عديدة، ولا مجال هنا لذكرها، وقد كانت لي تجربة شخصية في هذا الشأن، عندما كتبتُ روايةً تتناول مجموعة من الشخصيات الشريرة فعلا شاركتْ في الحرب الأهلية اللبنانية بشكلٍ قذر لا تمليه أية مبادئ، وفي مقدمتها لقمان الذي كان زعيما مافيويا يعبث بأقدار الناس، وانتهى به الأمر خاسرا عند انتهاء الحرب وإقرار السلام. لقمان هذا الذي مارس أنواع التعذيب على أبرياء، ووضع المتفجّرات واستغلّ النساء، كان بطل الرواية بلا منازع. لكن، وبرغم وحشيته المفرطة وسلوكه البغيض، تعلّق معظم قرّائي به ولاموني عندما عمدتُ إلى قتله في نهاية الرواية. لكن، ثمّة سؤال شغلني مذّاك: كيف ولِمَ تعلّقوا به؟ بل لماذا أرادوا أن أنقذه في النهاية، وأترك له فرصة الفرار إلى حياة أخرى لاحت له خارج البلاد؟ ثمّة من أجابوني بأنه شخصية طاغية الحضور، وأن وضعه كخاسر في النهاية جعل القرّاء يتعلّقون به. من ناحيتي، أنا لستُ أرى هذا، إذ ينبغي، في مكان ما، أن تتماهى مع "البطل" أو مع ما يمثّله ويرمز إليه لترتبط عاطفيا به. ومع ذلك...
كنّا في ماضينا الأدبي نحبّ الشخصيات التي تذهب في أقدارها إلى ما لا نستطيعه نحن "أبطال" الأيام العادية، البشر الفانين، التافهين، الذين تطحنهم آلة الحياة وتأمرهم بالرضوخ والامتثال. نرضخ ونمتثل، مرسلين "الأبطال" الحقيقيين، بدلا منّا، إلى مغامرات "خاسرة" أو رابحة، لا يهم. اليوم، وقد ماتت الآلهة في عالمنا الحديث، وقد خسر الكون سحريّته وإيمانه وخوفه من الآخرة ومن يوم الحساب، وقد فقدنا أجنحتنا، لا بد أن نرسل "أبطالنا" الجدد ليستكشفوا عنّا طوابقنا السفليّة، تلك التي في أقبية نفوسنا المظلمة التي تعجّ بالعنف ورغبة الأذى والإحساس بالمقدرة على القتل. لستُ أدري أين قرأتُ إن نشوء الحضارة استند إلى حقيقة ثابتة لا غير: إدراك الإنسان مقدرة الآخر، المماثلة، على القتل. فإذا أمكنني قتلك، فلمَ لا يمكنك أنت أيضا قتلي؟ من هنا، يقال، ابتدأ كل شيء.