شجاعة الاعتذار... نبل المغفرة

22 يناير 2024

(بير كيركبي)

+ الخط -

يحدُث في العلاقات الإنسانية أن يطرأ خلافٌ بين صديقَين لسببٍ ما، قد يصل إلى القطيعة التامة. تلك طبيعة الأمور، فلا شيء يبقى على حاله، والأفراد في العادة عُرضة لتبدّل المزاج وتغيير طريقة التفكير وارتكاب الأخطاء والهفوات بقصد أو دون قصد، ما يجعل استمرار العلاقة ضرباً من المستحيل. يحدث ذلك أحياناً بين أصدقاء عُمْر، المفترض أن علاقتهما ترسّخت عبر السنين، قد يسيء أحدهما التصرّف، فيجرح أو يهمل أو يكتفي بالأخذ ويحجم عن العطاء. وقد يصل الأمر إلى الخيانة بمعناها الحرفي، حين يغدر ويخون ويفشي الأسرار وينتهك حرمة الصداقة. حين تصل الأمور إلى هذا الحدّ القبيح، يكون الحكم بالزوال قد صدر بحقّ العلاقة، على الأقل من الطرف المجنيّ عليه، إذ لا يكون أمامه والحال هذه  خيارٌ آخر سوى الابتعاد، نأياً بنفسه عن التعرّض لمزيد من الغضب والحزن والأذى وخيبة الأمل. ولكن ماذا لو راجع الجاني نفسه وساوره الندم على ما بدر منه، وعاد معتذراً بعد سنواتٍ من  الغياب؟ هل ثمة مساحة للغفران والتجاوز والتماس الأعذار ورفع سقف التوقع واستعادة الثقة واستئناف العلاقة من جديد؟ 
يبدو هذا لكثيرين منّا أمراً فوق الاحتمال، من باب أنّ "المؤمن لا يُلدَغ من الجحر ذاته مرّتين"، وأن ما تهشّم في الماضي إلى شظايا سيُصبح عصيّاً على الترميم، حتى لو حاولنا ذلك، فثمّة خرابٌ كليٌّ قد حلّ وانتهى الأمر، وأي محاولةٍ لتدارك ذلك ستبدو ضرباً من العبث والتواطؤ ضد ذواتنا. ومحصلة كهذه تنطوي على كثير من القسوة التي نمارسها ضد أنفسنا بالدرجة الأولى، حين نختزن تلك المشاعر السلبية من مرارة وغضب وكراهية، ونصبح أشخاصاً متوجّسين شكّاكين مرتابين بالآخر عاجزين عن الثقة به، مفترضين سوء النيات عنواناً وحيداً في أي علاقة مقترحة، ما يشوّه أرواحنا ويعمل على إقصائنا عن المجموع وعلى انغماسنا في عزلةٍ موحشةٍ تلتهمنا على مهل، وتحيلنا إلى كائناتٍ غير اجتماعية عاجزة عن التواصل، عازفة عن الانخراط في محيطها، مستأنسة بوحدتها، غير قادرة على تخطّيها، وهذا مصيرٌ بائس ينبغي لنا تفاديه حفاظاً على توازننا النفسي.
علينا تدريب أنفسنا على النسيان الذي هو نعمة بحقّ، وعلى الترفّع عن خيباتنا، لا يوجد، بطبيعة الحال، ما يمنع من استخلاص الدروس والعبر من تجاربنا السابقة، سعياً لعلاقات متوازنة صحّية قائمة على الحب والاحترام والثقة. يتّأتى لنا ذلك إذا ما راجعنا أنفسنا ورسمنا الحدود التي تحمي خصوصيتنا وخصوصية الآخر من دون اندفاع عاطفي مبالغ به، ومن دون  افتراضات غير واقعية، وضرورة محاولة فهم طبيعة الآخر بشكل عقلاني.
وتظلّ مقولة "أحبِب حبيبَك هوْناً ما" المفتاح الذكي لأيّ علاقة، فإذا جاء من أساء مُعتذراً نادماً بإخلاص، علينا أن نبذل جهداً حقيقياً كي نسمو على الجُرح، ونفسح المجال للمغفرة، خلاصاً لذواتنا وتطهّراً للمسيء الذي اعترف بالذنب. فالحياة أقصر من أن نبدّدها في الخصومات والعتاب والحقد الذي لن يُفضي إلى مزيدٍ منه. لذلك، علينا أن نُسامح وننسى، فلا جدوى تُرتجى من استمرار حالة الغضب. كلّنا معرّضون لارتكاب الأخطاء والخطايا، ذلك جزءٌ من طبيعتنا البشرية، وكلّنا نعملُ محامين لأنفسنا، ونجد صعوبةً كبرى في الاعتراف بنقاط ضعفنا ونبرع في إيجاد المبرّرات والأعذار، وهذا سببٌ أساسيٌّ لتدهور وارتباك وسوء الفهم والتسرّع في إطلاق الأحكام، والتمسّك بالمواقف مهما كانت خاطئة. 
الإقدام على الاعتذار شجاعة، علينا حكماً أن نُقابلها بالغفران النبيل والسامي، كي تبدو الحياة أو ما بقي منها أقل قسوة ووحشة.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.