شتاء الغرباء
هناك، في البعيد، حيث يتساقط الثلجُ ندفا شحيمة، يكسو قممَ الجبال، يُثقل الأشجار، يمحو ألوان القرميد، يُطفئ المواقد ويقتل المواعيد. هناك، حيث يجلب البردُ النعاسَ، يُجمّد الأطرافَ، يُسكت الأولادَ ويجعل من أنوفهم طاباتٍ حمراء، ومن أعينهم كريات زجاج، لا بدّ من وجود من يعترض على أمر الله، فلا يسبّح بالحمد ولا يشكر ولا يتوب، إذ لا خطيئة، أيها الإله، تستحقّ كل هذا البياض، كل هذا اليباب.
هناك، في البعيد، حيث تنوح الأمّهاتُ ويطأطئ الرجال رؤوسَهم عجزا وقهرا، حيث الرقصُ على الجليد بأقدام عارية، ونتف قماش، وحيث تقيم المدافئ المطفأة في الأفواه، لا يُسمع رنين، أو أنين، فقط بخار يصعد من حروق الأجساد وزرقتها، فالثلج ذاك لاسعٌ يُلهب بسياطه الأعضاء، كاوٍ مثل أعتى النيران، لا تطفئه مياه، ولا يُضرمه هواء. الثلج هناك مقيمٌ في الأرواح، في الذاكرة المخلّعة مهدّمة الجدران، في الذاكرة المتراكمة حجارتُها المطبِقة على الأنفاس. قف أيها الصبيّ وتعلّم رقصة الرجال، ارفع سيفَك الوهميّ وشوّح به، وسوف ترى الدمَّ يتدفّق غزيرا كالسيول. انهضي، أيتها الصغيرة، وارقصي وتمايلي ودعي أطرافك للهواء يميل بها كما تميل الغصونُ والأعشاب. لا نار في الموقد. لا موقد. فقط أجسامكم الصغيرة وقد بقي فيها بعض حراك، في هذي الخيام التي لا تؤوي ولا تحمي ولا يُحسب لها حساب.
فوق الرؤوس الخائفة تحتشد الثلوج، تراكم فوق الخيام بطنا لن تلبث أن تفلش أحشاءها بعد قليل. حذار من بطن السماء، إذا ما دلقت ما فيها على من لفظتهم الحياة، يقول صاحب المزمار، قبل أن يستلقي على جنبه بعد طول عناد. تعاليْ أيتها الإغفاءة، وأنتِ، يا أعضائي، انفصلي عني، وأنت، يا قلب، لا تقل وداعا، لقد أخذتني ثقوبُ المزمار إليها، فدخلتُ فيها أبحث عمّا تبقى من أنغام. الصورة المعلّقة فوق الثقب، تصطفق مثل راية. لا بأس من اتفاقيةٍ تحدّد مواقع القبور، لا بأس من استراحة تهدّئ الأمور بعد المسير سنوات.
هناك في البعيد، قريبا من عين السماء البلقاء، تتدنّى حرارة الأجساد، حرارة الإيمان، والينابيعُ التي تطلقها الجبال لعناتٌ تمزج الثلج بالمياه ليصير حادّا كجارة بركان، فولاذيا قاطعا ينحر ويقتل على غير هدى. لماذا يا الله؟ لا وقود، لا طعام، فقط هذه الجدران النحيلة تلتوي كلما نهرتها العاصفة، وسوادُ الفحم الذي بات حلما من أحلامنا. لم تُنجبنا أمهاتُنا لهذا الهوان، لم يرميْننا إلى الطرقات واليُتم. لقد حملننا وأرضعننا واعتنين بنا وغنّين لنا كي نكبر على مهل، ترأف بنا الحياة ويحنّ علينا الغريبُ، وتُنزل لنا السماء من بركاتها وتُطلع لنا الأرض من خيراتها، فلِمَ إذن، وما الذي فعلناه لنستحقّ هذا كلّه. ومثلما كانت لنا أمّهات كان لنا آباء، وكان لآبائنا أيضا آباء، نحن لم نأتِ من مجهول وسلالاتُنا واضحة وبلادُنا معروفة ومُثبتة في الخرائط والسجلّات، فلمَ يكون المجهولُ مصيرَنا ولسنا بأهلٍ له ولا أقرباء.
اسمع أيها الغريب، الشتاءُ ليس فصلا للغرباء. الشتاء لا يستقيم إلا في عزلته والعراء. إنه منزلُ العواء والوحشة، فلا يغويك بياضُه أو تغرّك هدأةُ أشيائه. الشتاءُ عنكبوتٌ يغزل خيوطَ سكينته من حولك، قبل أن تلسعك برودتُه ويسري في دمك سُمُّ النعاس. النوم في البرد غواية الجهّال، أولئك الذين لا يُدركون خطورة الغفو، عنما ترتخي أعضاؤك، تضمر، تستحيل جمادا، إلى أن تغلق هدبيك مستسلما لعناق الثلج. لذا قم فورا ولا تغمض عينيك. لا، ليس هذا حضن أمك، ولا صوتها يغني لك كي تنام. هيّا انهض وارقص على قدميك، ثم اخبط بيديك بقوة سجّادةَ جلدِك كي تنفض عنه غبار البرد وعثّ اللامبالاة.