شاي البلاد وقهوة الآخرين

11 اغسطس 2023

شاي مغربي ونعناع (24/5/2023/Getty)

+ الخط -

في بلد بعيد، تجلس في مكان وتنسى أنّ فيه آخرين، تفعل ما تشاء ولا أحد يراقبك. بينما في مقاهينا تبتسم لشيءٍ على الهاتف أو لفكرة تذكّرتها، أو خاطرٍ سريع مرّ بذهنك، وتجد غيرك يُحدّق بك وباللّحظة. يشرد ذهنك وتجلس في وضعية تفكير، وتجد أنّ آخرين انتبهوا، وصرتَ فرجة لهم. ينتابك حزنٌ منهمر، تودّ لو كنت خفيّا، وتتلاشى بصمتٍ مثل غيمةٍ أو سحابة صغيرة، ثم تلملم أجزاءك لتغادر مكتملاً وقابلاً للعشرة مع بقيّة بني البشر. لكن ضعفك هذا كان عليه شهود، ترفع رأسك من داخل الهاوية التي نزلت إليها، فتجدهم يتفرّجون عليك، مقتحمين عقلك ومشاعرك وحياتك، في وقتٍ تتمنّى فيه ألّا يراك أحد، ما بالك أن يدسّ رأسه الفضولي في عمق روحك. وإلّا لم أنت وحيدٌ في هذه اللّحظة؟

لا أحد يجرّب ذلك في مدينة أخرى غير تلك المدينة التي كانت فيها للحظة حرية الشعور العام، ويتوقّع فيها ردّ الفعل نفسه، فكلّ مدينة وأهلها، ونسبيّة فضولهم أو عدمه. ولكن، في هذه المدينة الغربيّة، لا شاي يعدل المزاج ولا أدوات لإعداد الشاي المغربي الوحيد القادر على ذلك، فأعدّه في آنية القهوة. أضع ملعقة من الأوراق السوداء ومكعّب سكّر بنّي. فيغلي الشاي رافعا الزّبد أو (الكشكوشة) إلى أعلى، مع الوريقات التي امّحت تجاعيدُها، وعاد إليها شكلها الأول. كان نوعه رفيعا، لذا كنتُ حين أسكب الشّاي في كأس كبير، يظهر لونُه البنّي المضبّب، مغريا ومنعشا كطعمه. كنت أفيق ويعتدل مزاجي من أوّل رشفة. الشاي الجيد تعرفه من زبده الذي يكاد يشبه زبد البيرة، لذا كلما رأيت أحدا يشرب كأس بيرة هنا أشتهي كوب شاي "مكشكش".

ولأنّ الوقت قليل، وآنية القهوة صغيرة، يُنتج الشّاي نصفَ كأس فقط، لكنّه يكفي هنا رغم أنه لا يكفي أبداً داخل البلاد. تخيّل مغربيّاً خارج وطنه، كيف ينجو من دون هذا الشّاي؟ لا يهمّ النّعناع الآن في هذا المكان، فالشّاي وحدَه قادر على إبهاجك بذلك الطّعم الملكي للحياة. ألم يكن الملوك أوّل شاربي الشّاي والقهوة؟ لكن ليس أيّ قهوة ولا أيّ شاي له مذاق ملكيّ.

في السفر حياة أخرى ومذاقات أخرى ومشاريب كثيرة. تخطُر لي اقتباساتٌ كثيرةٌ عن الشاي والقهوة في بلدان العالم، ولأن عالم خوان بيورو يغمُرني أخيرا منذ قرأت "محاضرة في المطر"، أنسب كتاب لهذا الحرّ الجهنمي، أجدني أنجرّ إلى عالمه، هو القائل إن "الأدب هو ذلك المكان حيث ينهمر المطر"، وأضيف: "ويهطل السفر ومذاقات الشاي والقهوة". يفسر خوان فكرته عن الأدب الممطر قائلاً: "كرّستُ زمناً طويلاً لجمع المظلّات الأدبية. كما أحرقتُ أهدابي، بحثاً عن الاقتباسات"، "فأهداب القرّاء العظام ما زالت تحترق. إذ تحترق الآن بالاشتعال الذاتي، وتشبّ فيها النار حين يسطع وهج النّصوص. كدتُ أفقد أهدابي كلها، حتى ليقول الناظر إنني لم أحظَ بأهدابٍ قط. ولكن ذلك غير صحيح: إذ قدّمتُ أهدابي قرباناً مثلما قدّمت بصري قرباناً. المكتبة مصرفُ العيون، ففيها تودّع النّظرات التي يتبرّع بها القرّاء". لقد صرفني بيورو عن الاقتباسات، بهذا الوصف الهائل والمشبع، وأعود إلى طعم السّفر الخالي الاقتباسات.

إذ يظن المسافر أنه يخوض في الفوضى والمجهول، بينما يخطو في مساراتٍ مرتبة، غير مرئية الخيوط التي تربطها، لكنها مشدودةٌ ولا تنفك، رغم حيرته بين الأمكنة. لكن الطرق تشعر بمجيئه قبله، تستعد له وترتب لقاءات كانت مدفونة في طيّات الذاكرة. مثل لمحات "déjà vu" تحدُث اللحظة، وتضيع في ارتباك الذاكرة. لا أحد يعرف ما الذي يكمن خلف باب الأمكنة، قبل أن يلج إليها، فهي الحريصة لا تريك أبدًا ما تريد رؤيته، أو ما جئتَ لأجله.

يتفرّد طعم قهوة فلا يشبهها غيرها على الأرض، ولا تعود أنت الذي كان قبلها. الفرق بين من سافر وذاق وغيره، مثل الفرق بين العميان والمبصرين. هل الحياة بلا ترحالٍ من منازل إلى أخرى، من جغرافيا إلى أخرى، من ناسٍ إلى غيرهم، من روائح إلى أخرى، من جمالٍ إلى آخر، من سماءٍ إلى أخرى، من قلبٍ إلى آخر ... حياة؟

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج