شاهندة سيندروم
تعلّمت الهتاف ضد الظلم من السيدة شاهندة مقلد، "ماما شاهندة" كما كانت تطلق عليها الفتيات الجامعيات المعتقلات معها، عقب انتفاضة الخبز في يناير/ كانون الثاني 1977.
كان ذلك في قاعة محاكمة المتهمات بالتظاهر، ضد أنور السادات ودولته الأمنية، وفي مقدمتهن شاهندة مقلد، حيث كنت في نهاية المرحلة الابتدائية، حاضراً مع الأسرة جلسة الحكم على أختٍ لي.. يومها، اشتعلت قاعة المحكمة بهتاف البطلات داخل القفص ضد السادات وسيد مرعي ووزير الداخلية، فكانت المرة الأولى التي أعرف فيها معنى التظاهر ومعنى النضال. ووقفت مشدوهاً أتابع نقلهن تحت الحراسة المشدّدة من المحكمة إلى سيارة الترحيلات، عائدات إلى سجن القناطر.
لم التقِ هذه السيدة التي جاء الفيلسوف الفرنسي سارتر والمناضل العالمي تشي غيفارا إلى بيتها، باعتبارها نموذجاً للمناضلة، المنتمية للجماهير المظلومة، المدافعة عن حقها في الغضب والتظاهر، بعد فاجعة مقتل زوجها صلاح الدين حسين في أحداث قرية كمشيش في ستينيات القرن الماضي، دفاعاً عن الفلاحين ضد الإقطاع.
مضت السنون، وكنت أقرأ أخبار "أم المتظاهرات" بفخر شديد، وأتباهى بأني رأيت هذه السيدة، طفلاً، حتى جاءت لحظة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، وأسعدني زماني بالتعرف على "الأم شاهندة"، والتحدث إليها في أيام وليالي التظاهر في ميدان التحرير. وكان أول ما قلته لها إنها من علمتني الهتاف، وقيمة أن يدفع الإنسان ثمن موقفه وانحيازاته لما يراه حقاً، وقصصت عليها حكاية المحكمة والهتاف في القفص، وعرّفتها بنفسي، ففرحت أيما فرح، وسألت عن تلميذاتها اللاتي تعلّمن منها النضال والتظاهر، وطلبت أن أوصلها بهن، للقاء واستعادة الذكريات الجميلة.
في كل أحداث الثورة، في أثناء الفترة الدامية التي حكم فيها المجلس العسكري، كنت أبحث عن وجه "شاهندة" في الميدان، فتملأني الثقة في الانتصار، حين أجدها وأصافحها، حتى كانت ليلة من ليالي أحداث "مجلس الوزراء" الدامية، وكنا أمام "مجمع التحرير" ليلاً، حين جاءت "فتاة كشف العذرية"، وروت ما وقع من إرهابٍ مارسته عليها تهاني الجبالي التي كانت قد عيّنت عضواً في المجلس الاستشاري للمجلس العسكري في ذلك الوقت، كي تتنازل عن دعواها ضد المجلس.
وقد رويت هذه الواقعة في مقال بعنوان "سماسرة المجلس الاستشاري"، نشرته في السابع من ديسمبر/ كانون الأول 2011، كتبت فيه "القصة المؤسفة روتها سميرة إبراهيم، في حضور جمهرة من الناس في ميدان التحرير، التف حولها مؤيدون لقضيتها، ووسط أم الثوار السيدة الجليلة شاهندة مقلد والكاتبة الكبيرة أهداف سويف والزميلة نور الهدى زكي وعدد من المثقفين المحترمين. وكشفت، لأول مرة، عن أن شخصية معروفة انتقلت، أخيراً، من معسكر الثورة إلى معسكر تأييد المجلس، اتصلت بها هاتفيا، ومارست عليها ضغوطاً كثيرة، كي تتنازل عن حقها في مقاضاة الذين أهانوها، وانتهكوا إنسانيتها في معسكرات الاعتقال، وأخضعوها لكشف العذرية عنوة.
وسمعت سميرة من هذه السيدة ما لا يصدّقه عقل، حيث بدأت بالنصح، ثم سرعان ما انتقلت إلى تخوينها وتكفيرها وطنياً، لأنها تطالب بحقها، ووصل بها الأمر إلى اتهامها بأنها عديمة الوطنية، لأنها تصر على مقاضاة الضباط الذين أهدروا إنسانيتها، ما دفع الفتاة الصغيرة، في نهاية الأمر، إلى الصراخ وإنهاء المكالمة".
مع بداية التحضير للانقلاب العسكري في يونيو/ حزيران 2013، كانت "أم المتظاهرات شاهندة" قد انتقلت إلى الضفة الأخرى، مع العسكر ضد الرئيس المنتخب بعد الثورة، فتباعدت المسافات، وانقطعت الاتصالات، إلا من رسائل مؤسفة، كانت تأتيني منها، تعاتبني وتعنّفني على أنني احتفيت بالإنجاز الذي تحقق مع الرئيس مرسي، ومجموعة الوزارات المعنية بالحاصلات الزراعية، وهو الاقتراب من تحقيق الاكتفاء الذاتي من محصول القمح، ووصل الأمر لاتهامي بالانقلاب على الثورة، و"التأخون بالطبع"، بل وعلمت، في ما بعد، أنها مارست ضغوطاً على نقيب الفلاحين، كي يتراجع عن تصريحاته، نشرتها على لسانه، تؤكد حدوث طفرة في زراعة القمح، تتهددها مؤامرة على عمليات التوريد والتشوين.
الآن.. شاهندة مقلد صارت من أذرع الجنرال العسكري الحاكم، بعد سلسلة مجازره، عضواً في ما يسمى مجلسه القومي لحقوق الإنسان، وتعلن أن التظاهر الآن جريمة وخيانة وطنية. ومن منطلق عضويتها في "المجلس الإنساني"، تتحدث لغة الجنرالات المتقاعدين، والخبراء الاستراتيجيين، وتتوعد الذين يفكرون في التظاهر بالسجن، كما جاء في حوارها مع موقع "مصر العربية".
تعرف أدبيات السياسة وعلم النفس ما تشتهر باسم "متلازمة ستكهولم"، أو "ستكهولم سيندروم"، وسيكتب التاريخ المصري يوماً عن "شاهندة سيندروم" نموذجاً للانقلاب التام على التاريخ الشخصي، والتبرؤ من كل إنجاز أو إضافة محترمة، سجلت باسمها يوماً.