سَجين اللغة
اللّغة أخطر أدوات السّياسة. غالبية السياسيين العرب غير واعين بهذه الحقيقة، ممتلكين زمام اللّغة، أو كانوا فقراء على صعيد المعجم اللّغوي. ويمكن استحضار دونالد ترامب، فهو أفقر السّياسيين في العالم على مستوى المعجم اللغوي من حيث استعماله، حسب الخبراء، خمسين كلمة، يكرّرها في سياقات مختلفة وبالتّعابير نفسها. وهي تعابير لغوية بدائية، فنحن أمام شخصٍ يعيش حبيسا للغة شديدة الشّعبوية، أو تعبيرات طفولية في أحسن الأحوال. مع ذلك، كان يجيد جذب الأميركيين إلى خطابه، وإلى لغته ومواقفه، وكان يجيد التواصل مع ناخبيه، ولم يكن يهمّه العالم.
استخدم ترامب الكلمات نفسها التي قد يستخدمها شخصٌ بسيط التعليم تلتقي به في الشّارع، ويحاول أن يحكي لك عن حدثٍ ما. ربما كان هذا أحد أسباب جاذبيته لدى بسطاء الأميركيين الذين لم ينظروا إليه شخصا ثريا يستغل مآسيهم، كما هو واقع الحال، بل فقيرا اغتنى، أو واحدا منهم، يتكلّم لغتهم، ويعبر بالأسلوب نفسه مثلهم؛ وبالتالي يرون فيه أنفسهم وقد تحدّوا جميع العوائق للوصول إلى البيت الأبيض، على الرغم من أنهم يغضّون الطرف عن القصر الذي يعود إليه، والملابس والسيارات الفاخرة التي يتنقل بها.
لم يكلف ترامب نفسه عناء تعلم لغةٍ أخرى، ما دام لم يستغل مساحة لغته الأصلية
لم يكلف ترامب نفسه عناء تعلم لغةٍ أخرى، ما دام لم يستغل مساحة لغته الأصلية، ففي خطابه، الكل أعداء أو أصدقاء، عظماء أو ليذهبوا إلى الجحيم. لا منزلة بين الاثنتين، ولا مناعة لعزيز قومٍ أرادهُ ذليلا. حتى زملاؤه قادة الدول، إما يحبّونه أو لا يحبونه، كل شيء بسيط وشخصي في نظره، إلى درجةٍ لا تُصدّق.
هذا أبرز نموذج لسياسيين نجحوا على الرغم من فقرهم اللغوي، وعدم محاولتهم تحسين تعابيرهم، أو تعلم كلمة أجنبية من أجل خاطر شعب، أو شخصية من تلك اللغة. وهناك سياسيون يمتلكون لغات عديدة، لكنهم فشلوا في تحقيق التواصل مع الذين يُوجّه إليهم الخطاب. في المغرب من الصنف الأول نموذج عبد الإله بنكيران، كان يلقي معظم خطاباته بالدّارجة، ولم نسمعه يتحدّث بلغة أخرى. مع ذلك كان شديد التأثير في المغاربة، حتى لو كان محط سخرية كثيرين، خصوصا أصحاب المنطق العقلاني. على عكس شخصيةٍ أخرى جرّبت هذه التقنية بعده، الأمين العام السابق لحزب الأصالة والمعاصرة، إلياس العماري، الذي حاول منافسته، وكانت جهاتٌ عديدةٌ تحضره لخلافة بنكيران. جرّب الرجل كل شيء، الفصحى، الدارجة، الأمازيغية، والآن عاد من الصّين متحدّثا الإنكليزية حسب صورة حديثة. مع ذلك لم يثر سوى السّخرية بأي لغةٍ تحدّث.
اللّغة كائن خطر، إذا لم تنتبه لفخاخه
اللّغة كائن خطر، إذا لم تنتبه لفخاخه. وهذا ما نبه إليه الرّوائي النمساوي ستيفان زفايغ، قال "إذا كنتُ أعي فنا يخصّني، فهو قدرتي على الاستغناء. فأنا لا أتذمّر إن شقّت طريقها إلى سلة المهملات ثمانمئة صفحة من أصل ألف صفحة مخطوطة، وبقي بعد الغربلة مئتا صفحة فقط هي الجوهر". زفايغ صاحب الرّوايات القصيرة واللذيذة، قاوم جبروت اللغة في الكتابة، واكتفى بما هو خفيفٌ ومعبر. بأقل قدر من الكلمات، استطاعت رواياته أن تجد مكانها على قائمة الأكثر مقروئيةً في العالم.
لكن الاستغناء عن كثرة الكلمات لا يعفي من ضرورة تعلّم لغاتٍ أخرى، لهذا يمكن اعتبار شخصٍ لا يملك سوى لغة واحدة، شخصا فقيرا وحبيسا ومعزولا عن العالم؛ فعدا عن كونها وسيلة التخاطب، اللغة أداة معرفة. وما زلنا نندهش لشخصٍ يملك إمكانات عديدة ومكتبة كبيرة، لكنه لا يخرُج من دائرة اللغة العربية؛ فهو يقرأ كل الكتب بواسطتها، ما يعني أنه رهين نوع الترجمة وسجين رؤية المترجمين، ولن يقرأ الآخر أبدا كما هو.
ما زلنا ندهش لشخص يملك إمكانات عديدة ومكتبة كبيرة، لكنه لا يخرج من دائرة اللغة العربية
ولا يمكن الحديث عن الترجمة من دون استحضار الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو، الذي يرفع راية الشك دائما، معتبرا أنه "إن كان هناك ترياق ضد البلاهة، فهو في السّؤال اللامتناهي"، ولا يتأتّى السؤال إلّا عن طريق المعرفة التي تفتح آفاقا جديدة. ولنطلّع على رؤية الكاتب من المفيد معرفة لغته الأصلية، للمرور إلى لغته الخفية. ويحيلنا كيليطو إلى مقولة الفيلسوف الفرنسي، ميشيل دي مونتين، "أيا كانت اللغة التي تتكلمها كتبي، فأنا أكلمها بلغتي". من هذه الجملة، استنبط كيليطو عنوانه الأبرز "أتكلم جميع اللغات .. لكن بالعربية"، فيما يحضر حوار مع الروائي الأميركي، ديفيد والاس، يقول فيه: "تخيّل ألا تعرف كيف تتخذ لغةٌ أخرى طريقها بين الكلمات؟ وتتحوّل الأصوات الغريبة غير المفهومة لمن لا يجيد اللغة إلى جمل ومعاني سلسة ومفهومة، كأنّها صورة تتسع بالزّووم، لتقدر على رؤية تفاصيلها الصّغيرة، كأنّها عوالم منفصلة وصور داخل الصّورة".
هناك من ضاقت به اللغات، فاختار لغةً يعرفها الجميع مثلما فعل خابي لام، الشاب السنغالي المقيم في إيطاليا، يقدم فيديوهات ساخرة جذبت 66 مليون متابع، بلغةٍ بسيطةٍ لا تحتوي على أي كلمة، فقط ملامح وجهه وإشارة يده توصل الرّسالة بقوة ووضوح. بلغ خابي مستوىً متقدّما من التّحايل على الصوت، وعلى اللغة التي قضى الإنسان قرونا يطوّر فيها، ويعدّدها حتى أصبحت لانهائية في كلماتها وتعبيراتها. عاد خابي إلى العصور الأولى، حيث استخدم الإنسان الرسم لشرح ما يقوله في صور قليلة، بلا تعقيد ولا تفسير، وبلا شك ولا ثرثرة على الإطلاق، فالثرثرة جاءت لاحقا مع غنى اللّغات وترف العيش اللّذين حوّلا الإنسان إلى هذا الكائن الذي يتحدّث بلا توقف، ولو لم يكن لما يقوله أي قيمة تُذكر. وربما تكون الرغبة في التخلص من هذا الوضع، هي التي تفسّر ما كتبه الشاعر البولندي تاديوش روجيفيتش: لا أريد أن أتكلم / أريد أن أفعل شيئا بكلماتي/ حتى يلمسها آخرون/ بأيديهم.