سيناريو التفكّك الأميركي
لا يتيح الدستور الأميركي لأيٍّ من الولايات الأميركية حقّ الانفصال عن الاتحاد. فانضمام الولاية إلى الولايات المتحدة، يجعلها في "علاقة غير قابلة للحل"، وفق ما خلُصت إليه المحكمة العليا الأميركية في 1869 في قضية عُرفت، يومها، بقضية تكساس ضد وايت، وهو أمرٌ أعاد قاضٍ في المحكمة تأكيده في عام 2006 بالقول: "إذا كانت هناك أي قضية دستورية حُسمت في الحرب الأهلية، فهي أنه لا يوجد حقّ في الانفصال".
ولكن مَن قال إنّ نصوص الدساتير قادرة على وقف الانفجارات الكبرى في أيّ مجتمع؟ فحين تبلغ حالاً من التأزم، يُصبح، معها الاستمرار في ما هي عليه مستحيلاً. صحيحٌ أنّ التزام النصوص الدستورية والتشريعية يتفاوت بين المجتمعات، ولا تصحّ المقارنة بين البلدان المصنّفة ديمقراطية، وتلك التي لم تشهد الممارسة الديمقراطية الراسخة، وعهدت الانقلابات على الدساتير، أكان ذلك من طريق انقلابات عسكرية تطيح أنظمة قائمة، أم بانقلابات تقوم بها هذه الأنظمة نفسها على دساتير كانت شريكة في وضعها، فيما يختلف الحال في البلدان الأولى، المصنّفة ديمقراطية، حيث هناك ما يشبه الحصانة المطلقة للنصّ الدستوري. لكن مرّةً أخرى نقول إنّ المجتمعات كافةً قد تبلغ مستويات من الأزمة، تصبح الانفجارات أو التغييرات الحاسمة فيها أمراً لا مفرّ منه.
لا تبدو الولايات المتحدة، الدولة الأقوى عالمياً، في منأى اليوم من سيناريو قد يندرج في هذه الخانة. جديد الأخبار ذات الصلة تتحدّث عن حركة انفصالية جديدة في ولاية نيو هامبشير الأميركية، اتخذت لنفسها اسم "خروج نيوهامبشير الآن". زعيمة هذه الحركة، كارلا جيريك، قالت في بيان أرسلته إلى "نيوزويك": "هناك 2.5 مليون بيروقراطي غير منتخب في واشنطن العاصمة، وهم المسؤولون عن جرّ الأمّة إلى حافة الإفلاس. ليس ذلك فحسب، بل إنهم يستنزفون الأموال من جيوب دافعي الضرائب كل عام، ويدوسون حقوق مواطني نيو هامبشاير"، مؤكّدة حماستها لتولّي قيادة التحرّك من أجل استقلال الولاية لضمان "حماية حقوق سكّانها واحتياجاتهم، والعمل على تأمين مستقبل يتمتّع بالحكم الذاتي لنيو هامبشاير".
سبق هذا التحرّك تقديم أحد نوّاب الولاية الجمهوريين، قبل نحو ستة أشهر، تشريعاً لمجلس الولاية، يطالبه فيه بإعلان الاستقلال إذا تجاوز الدَّين الوطني الأميركي 40 تريليون دولار. رفض هذا التشريع لم يثنِ نائباً جمهورياً آخر عن تقديم مشروع قانون منفصل إلى مجلس الولاية أيضاً يدعو إلى إنشاء لجنة لدراسة الاستقلال للتحقيق في "الجوانب الاقتصادية والقانونية والاجتماعية" لممارسة نيو هامبشير "حقوقها السيادية"، ولأن تصبح دولة مستقلة.
شهد هذا الأسبوع أيضاً إطلاق حملة "لويزيانا حرّة" (Free Louisiana) التي تدعو إلى انفصال ولاية لويزيانا عن الاتحاد، بمفردها أو كجزء مما أسمته "اتحاد الولايات الوسطى الأميركية"، فيما كشف استطلاع رأي أجرته مؤسّسة "يوغوف" في وقت سابق من العام الجاري، أن 23% من الأميركيين يؤيدون استقلال ولاياتهم عن الحكومة الفدرالية، وسجلت أعلى النسب في ولايتي ألاسكا (36%) وتكساس (31%).
يستبعد المحلّلون والمتابعون انهيار الولايات المتحدة على أسس إثنية أو عرقية. وحدهم السكّان الأميركيون الأفارقة، ومعظمهم يتركّزون في الولايات الجنوبية، يمكن أن يطمحوا إلى دولة خاصة بهم، لكنّ هذا السيناريو مستبعدٌ أيضاً أو غير واقعي، ما يجعل السيناريو الأكثر واقعية لهذا التفكك، إن حدث، تقسيم البلاد إلى عدّة ولايات على أساس سياسي، لن يكون بعيداً عن الانقسام السياسي الحادّ المتزايد في المجتمع الأميركي بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو انقسام بلغ مستوياتٍ غير مسبوقة في المراحل الماضية، وهو مرشحٌ لمزيد من التفاقم مع انتقال حدّة الانقسام إلى داخل المعسكرين نفسيهما، خصوصاً في حال الديمقراطيين، حيث فجّر الأداء السيّئ للرئيس جو بايدن في مناظرته أخيراً مع المرشّح الجمهوري دونالد ترامب، أزمةً عميقة في صفوف الديمقراطيين، وتتصاعد المطالبة بأن يعلن بايدن تخلّيه عن ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بسبب تقدّم عمره وسوء أدائه، ما يجعله غير مؤهلٍ، لا لخوض حملة انتخابية ناجحة فحسب، بل الأهمّ قيادة البلاد أربع سنوات أخرى، خصوصاً في ظلّ الوضع الدولي الراهن القابل لانفجارات خطيرة في أية لحظة.
لن تتفكّك أميركا غداً أو بعد غد، لكنها دخلت نفقاً سيؤدّي إلى التفكّك، إن لم تفلح في الخروج منه سريعاً، ولا علامات، حتى اللحظة، على ذلك.