صيدنايا مكان توقّف الغزال
لا تُنسى أبداً الحكاية التي أوردها المُعارض السوري (اليساري) ميشيل كيلو (1940 - 2021) عن فترة اعتقاله، حين اقتاده أحد حرّاس السجن، بعد أن عرف أنّه كاتب، إلى زنزانة تضمّ امرأة وطفلاً، هو ابنها. طلب الحارس من كيلو أن يحكي للطفل حكايةً كالتي تُحكى للأطفال. تعاطفاً مع الطفل، بدأ كيلو حكايته بالقول: "كان هناك عصفور"، فسأل الطفل: "ما هو العصفور؟". رّد كيلو: "الطائر الذي يطير فوق الشجرة"، ومرةً أخرى سأل الطفل: "ما الشجرة؟".
حكاية موجعة عن طفل ولدته أمه في الزنزانة، وفيها كبر، لم يرَ من الدنيا سوى جدران الزنزانة، لا السماء ولا الشمس ولا الطيور ولا الأشجار. حكاية فيها من الدلالات الكثير عن معاناة من قادتهم الأقدار إلى زنازين سجن صيدنايا، الذي يكفي ذكر اسمه لإثارة الرعب في النفوس، كالمرأة التي ولدت الطفل فيه، ولم يكن سبب اعتقالها سوى الضغط على والدها المعارض الذي فرّ إلى الأردن.
لحظة سقوط نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، استولى محتجّون على السجن، وبدأوا في إطلاق سراح السجناء السياسيين. حين قيل لهؤلاء السجناء أنّهم باتوا أحراراً وبوسعهم الذهاب إلى بيوتهم لأن نظام بشّار الأسد قد سقط، ساد في صفوفهم مزيج من الشعور بالفرحة والارتباك وعدم التصديق، فبعض السجناء الذين مضت عقود على سجنهم لا يعلمون أنّ والد بشّار الأسد (حافظ) قد مات قبل 24 عاماً، وكانوا يعتقدون أنّه لا يزال في السلطة، ولا علم لهم أنّ ابنه أصبح هو الرئيس.
أفادت معلومات بأنه كان في السجن، لحظة سقوط نظام الأسد، ما يقدّر بنحو 14 ألف سجين. حسب تقرير لمنظّمة العفو الدولية (في العام 2017)، فإنّ ما بين خمسة آلاف و13 ألف شخص أُعدموا خارج نطاق القضاء في صيدنايا، بين سبتمبر/ أيلول 2011 وديسمبر 2015، وفي التقرير نفسه، قالت المنظمة: "إنّ سجن صيدنايا مسلخ بشري. حيث تنقل جثث ضحاياه بالشاحنات. ويُشنق العديد منهم سراً في منتصف الليل، ويموت آخرون نتيجةً للتعذيب، ويُقتل العديد ببطء من خلال الحرمان الممنهج من الطعام والماء والدواء والرعاية الطبية". فيما قدّر المرصد السوري لحقوق الإنسان (يناير/ كانون الثاني 2021) أنّ 30 ألف معتقل قُتلوا في صيدنايا بسبب التعذيب وسوء المعاملة والإعدامات الجماعية، منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية.
تحدّثت تقارير مرعبة عن وجود ما توصف بـ"غرف الملح" في صيدنايا، وهي غرف مغطاة بطبقة من الملح تُستخدَم عادةً لإزالة الجليد من الطرق، جرى استخدامها مشرحات لحفظ الجثث في غياب المشرحة المُبرِّدة. وعندما يموت أحد المعتقلين في السجن، تُترك جثّته داخل زنزانة مع نزلاء آخرين بين يومين وخمسة أيام، قبل نقلها إلى غرفة الملح. وتحدّثت تقارير دولية أخرى عن تشغيل محرقة في السجن للتخلّص من الجثث، ورغم أنّ بعض من سجنوا في صيدنايا نفوا وجود مثل هذه المحرقة، لكن تبقى الفظائع التي ارتكبت في السجن مخيفةً، بدءاً من الضرب المستمرّ والاعتداءات الجنسية وقطع الرؤوس والاغتصاب والحرق، واستخدام الألواح المفصلية المعروفة باسم "السجّاد الطائر". وبين من سجنوا في صدنايا (وفي بقية السجون السورية) خلال الحرب الأهلية (بين مارس/ آذار 2011 وديسمبر 2024)، 3 آلاف و698 طفلاً و8 آلاف و504 نساء. فيما تقول تقارير أخرى إنّ 75% من الذين يدخلون سجن صيدنايا لا يخرجون منه أحياء.
لدى أنظمة الاستبداد قدرة فائقة على صنع ذاكرة وحشية، تُغيّب (أو تكاد) ذاكرةً مضيئةً سابقةً لها بقرون. فحين يرد اسم صيدنايا، يأتي على البال مباشرةً السجن الذي بدأ إنشاؤه في 1978، بعد مصادرة الأراضي من أصحابها المحلّيين، فباتت الأبدان تقشعرّ بمُجرَّد ذكره، ولا يخطر على البال أنّ صيدنايا هي في الأصل موطن دير أرثوذكسي يوناني يُعتقد أن مؤسّسه هو الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول، إذ يقدّس المسيحيون والمسلمون أيقونة شهيرة للسيدة العذراء مريم. وحسب الاعتقادات المحلّية، تعني صيدنايا "مكان توقّف الغزال"، ما يعني ببساطة أنّها مكان صيد، ففي العصور القديمة، كان هناك معبد لصيدون، إله الصيد الفينيقي، وفي اللغة العربية، فإن صيدنايا تعني "سيّدتنا" و"مكان الصيد".
في محلّ جمال الأسطورة والحكاية أحلّ الطغاة ذاكرة الموت والبشاعة.