سورية ملعباً إسرائيلياً
قال إرييل شارون مرّةً في شبابه الأول إنه لا يقتُل ثلاثة فلسطينيين أو أربعة إذا كان في وُسعه أن يقتل خمسين أو مائة. والبادي أن تلاميذ الإرهابي العتيد وأشباهه في حكومة دولة الاحتلال وجنود جيشِها وضبّاطه وقادته يأخذون بذلك الدرس العتيق. ... قد يفترض قارئ هذه المقالة أنها تبدأ بهذا المُفتتح لتُحيل إلى الجاري في قطاع غزّة، حيث يُقتل من الفلسطينيين نحو 140 يومياً (هل انخفاض عددهم عن 300 أو 400 شاهدٌ على مرحلة ثالثة للعدوان؟)، غير أنها تفعل هذا لتُحيل إلى الذي تُواظب عليه إسرائيل في الأراضي السورية، فقد أعيانا، نحنُ أهل الصحافة، عدُّ الاعتداءات شبه اليومية والأسبوعية التي تقترفها دولة الاحتلال على المطارات في دمشق وحلب، وعلى منشآتٍ ومرافق مدنيّة وعسكريّة، كيفما شاءت، ولعلّها مراكز الأبحاث أقدر على توثيق كل هذه الضربات التي باتت أخبارُها تقليدية، ولا تخدشُ رتابتَها إفادةٌ بيانات الحكومة السورية إن "الدّفاعات الجويّة تصدّت لصواريخ العدوان"، وإنْ يلزمُ التذكير بأن وتيرة الضربات الإسرائيلية لم تنخفض في غضون الحرب العدوانية التي تُواصلها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، كما هو لازمٌ، بالمقدار نفسه، التذكيرُ بأن كل هذه الضربات تُنجِز مهمّاتها تحت أبصار الرادارات الروسية، ومع صمت موسكو، والتفاهم معها ربما.
مؤدّى القول إن إسرائيل تَرى أنه ما دام مُتاحاً لأيديها الطولى (صواريخها وقذائفها على الأصحّ) أن تصل إلى مبنىً في حي المزّة في دمشق، يجتمع فيه خمسةٌ من استخبارات الحرس الثوري الإيراني، فلم لا تفعل؟ وهي التي مارست فعلاً كهذا غيرَ مرّةٍ في وقائع سابقة، اكتُفي فيها في طهران بنوبات الوعيد الروتينية إيّاها، وبما سُمع في دمشق من فيصل المقداد يكرّر "إن الإسرائيليين سيدفعون الثمن عاجلاً أو آجلاً"، ولا نظنّنا سنشهدُ ذلك الآجل فيما تبقّى لنا من أعمار، وقد فات العاجلُ مواعيدَه كلها منذ أجهزَ شارون على الصواريخ السورية (السوفياتية) في البقاع اللبناني في 1982، مروراً بالغارة على منشأة دير الزور العسكرية لأبحاث نووية في 2007، واكتفى إيهود أولمرت بشأنها بإبلاغ جورج بوش الابن بها، من دون وجوب موافقته، وصولاً إلى متوالية الضربات التي تزيد عن المئتين (في حسبةٍ عاجلة) منذ 2011.
لا يعودُ هذا الاستخفاف الإسرائيلي بسورية التي أرهقها حافظ الأسد في الثمانينيات ببحثه عن توازنٍ استراتيجي لها مع إسرائيل، ثم انتهى الحالُ إلى ما شوهد من كفاءةٍ عاليةٍ لدى الجيش الذي بناه ورسَّمَ معتقده العسكري، في ضرب المستشفيات وقتل المتظاهرين وتشريد مئات الآلاف، لا يعودُ إلى اهتراءٍ عتيدٍ في منظومة الحكم المستبدة والفاسدة فحسب، وإنما أيضاً إلى توطّن درس شارون في بُنى صناعة القرار في إسرائيل، وموجزُه أنه طالما في الوُسع ضرب ما في الوسع ضربُه في سورية (وغيرِها بالمناسبة)، فإن الردّ سيكون دعوة الناطق باسم وزارة الخارجية (والمغتربين) السورية "مجلس الأمن إلى تحمّل مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين"، كما فعل في بيانه السبت الماضي، بعد قتل الإيرانيين الخمسة في ذلك المنزل في دمشق. ولافتٌ أن البيان لم يأتِ على هؤلاء أبداً، ولم نكُن لنعلم أنهم مسؤول استخبارات في الحرس الثوري ونائباه وعنصران، لولا النبأ الذي طيّرته طهران. ولا نظنُّه لافتاً أن صحيفة تشرين لم تخصّص افتتاحيةً بشأن الواقعة، فما عادت تفعل هذا بانتظام مع كل اعتداء إسرائيلي، ما قد يعودُ إلى استهلاكها كل مفردات معجم التهديد والوعيد إيّاهما.
لا يُفترى على النظام البغيض في دمشق في القول إنه صَنع من سورية ملعباً لإسرائيل التي لشدّة ما كانت المؤامرة الكونية عليه رائعةً بالنسبة لها، عندما ساهم بهمّةٍ ومثابرةٍ مشهودتيْن في تحطيم سورية وتهديمها وضرب اللحمة الاجتماعية فيها، وأبقى على نفسه حُطام نظامٍ تحميه إيران التي يلاعبها جنرالاتُ إسرائيل في الجيش والموساد بكيفياتٍ تتنوّع اغتيالا وقنصا وقصفا، وقد قالها شارون في يومٍ بعيد إذا كان في وسعك أن تفعل المزيد مما في وسعك أن تفعل فلا تتردّد، وهذا مجلسُ الأمن لن يستجيب لدعوة الناطق السوري، ولو استجابَ فسيّان.