سورية في معطيات جديدة
بات الوضع السوري على غير ما كان عليه قبل شهر؛ فلم تُفضِ إعادة مقعد النظام السوري إلى جامعة الدول العربية إلى تعويمه وتقديم المساعدات المالية له، تحت بند الإغاثة الإنسانية المعفاة من العقوبات الدولية وقانون قيصر، منذ كارثة زلزال 6 فبراير العام الحالي. تشدّد الأميركان في تحذير العرب من الغلوّ في العلاقات مع النظام السوري، مهدّدين بسلاح العقوبات، وتراجعت السعودية عن فتح سفارتها في دمشق، ولم تستقبل السفير السوري، واكتفت بتمثيل دبوماسي محدود. حسّنت واشنطن علاقاتها مع الرياض، ضمن المراجعات الجديدة لإدارة الرئيس بايدن، مدعومة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري والكونغرس ومجلس الشيوخ، لعدم ترك منطقة الشرق الأوسط للصين وروسيا، والبحث في مطالب السعودية مقابل قبولها التطبيع مع إسرائيل وتشكيل ناتو عربي مواجهٍ لإيران، ولضبط العلاقات الممكنة بين الرياض وطهران في ضوء الاتفاق الذي رعته الصين. استجلبت واشنطن أسطولاً بحرياً، وبثلاثة آلاف جندي أميركي، إلى قبالة السواحل اللبنانية، عقب اشتباكات في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، ونشرت مقاتلات من طراز إف-16 وأخرى من طراز إف-32 في الشرق الأوسط، وزادت من وجودها العسكري واهتمامها بسورية، باستقدام قوات ومعدات من العراق، بعد الاستفزازات الروسية في منتصف الشهر الماضي (يوليو/ تموز) وأواخره ضد طائرات أميركية شرق الفرات وإلحاق الأضرار بها، في انعكاس للحرب الروسية في أوكرانيا، حيث صرّحت واشنطن بأنها لن تغادر سورية.
في كل يوم، هناك دعوات إلى اعتصامات وإضرابات وتوزيع منشورات، وتصدر البيانات التي تهدّد وجود السلطة السورية
جاء هذا التشدّد في الرفض الأميركي والغربي الواضح تجاه تعويم نظام الأسد من الأطراف العربية وغيرها في وقت ترغب فيه واشنطن في تشديد الخناق على روسيا وإيران في سورية. وعلى الرغم مما قيل عن الصفقة الأميركية - الإيرانية قبل أيام عن إطلاق طهران سراح محتجزين أميركيين مقابل إلغاء تجميد أموال لإيران، بأنه بداية لتوافق حول سورية، إلا أن حديثاً مقابلاً عن سعي أميركي لوصل منطقة التنف بشرق الفرات، واستقدام مقاتلين من فصائل الجيش الوطني في الشمال لهذا الغرض، يعني أن واشنطن تسعى إلى الضغط على طهران في المنطقة. ويعزّز ذلك تكثيف الضربات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية في سورية، خصوصا في دير الزور؛ ما دفع طهران إلى التوسّط بين النظام و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، لإقناع الأخيرة بعدم مشاركة التحالف الدولي، في حال قرّر استهداف الوجود الإيراني شرق سورية، وهو ما فشل بسبب اشتراط "قسد" اعترافاً رسمياً من النظام بالإدارة الذاتية. يزيد التقارب التركي مع الولايات المتحدة من عرقلة المساعي الروسية في سورية لتأهيل نظام الأسد. ويضاف إلى ما سبق انهيار الوضع المعيشي في الداخل، وتضخّم في الأسعار، وانخفاض قيمة الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية (الدولار يفوق 15 ألف ليرة سورية)، وغليان شعبي على وشك التفجّر في كل مناطق سيطرة النظام.
حفر كل السرد السابق عميقاً في بنية النظام السوري، المترهلة أصلاً؛ حيث ظهرت تصدّعات جديدة إلى العلن، لأشخاص موالين ومدافعين عن النظام، ويحظون بدعم أمني، يتحدّثون عن رفضهم سياسات التفقير والقبضة الأمنية المشدّدة وبيع الأراضي والمنشآت إلى روسيا وإيران. فيما قاد انسداد آفاق المستقبل إلى ظهور حركات شبابية جديدة سرّية، كحركة 10 آب، وعودة نشاط حركات سياسية قديمة كحركة الشغل المدني التي أنشئت في 2012 في الساحل السوري، وهناك بيان للضباط الأحرار يؤيدون فيه فكرة المجلس العسكري الذي يقوده العميد مناف طلاس، وكذلك نشاط ملحوظ لحزب اللواء السوري في الجنوب، وتجدّد الدعوات إلى إقامة إدارة ذاتية تشمل السويداء ودرعا، تضم قوات مكافحة الإرهاب بدعم أميركي أردني. وفي كل يوم، هناك دعوات إلى اعتصامات وإضرابات وتوزيع منشورات، وتصدر البيانات التي تهدّد وجود السلطة السورية حتى بسقف مطالبها المنخفض، مع حالة استنفار أمني غير مسبوقة مترافقة مع محاولات التهدئة، كمرسوم مضاعفة رواتب الموظفين (تلاشى تأثيرها مع رفع أسعار المحروقات والقفزات التضخمية للأسعار)، وزيارات مسؤولين أماكن التجمّعات للتهدئة، وزيادة ساعات وصل الكهرباء في مناطق محدودة ليوم أو يومين.
من الممكن أن ترجّح الاحتجاجات الداخلية الكفة باتجاه إجبار النظام السوري على القبول بالتغيير السياسي
يواجه الحراك الداخلي المعارض تحديات عليه تجاوزها، حتى يكون مؤثراً، أهمها القدرة على استقطاب كل الشعب السوري، وأن يتجاوز المآزق التي أوقعت المعارضة السورية الشعب السوري بها، في حراكه في 2011، خصوصا الانقسام العمودي، والتطييف والأسلمة والفئوية، والتدخّل الخارجي والتسليح، وهي عناصر تسهل على النظام تجييرها لمصلحة مواجهة الحراك، وهذا يجبر تلك الحراكات على الابتعاد عن شعاراتٍ استخدمها الحراك المعارض، كشعار "إسقاط النظام" الذي بات يعني انتماءً إلى المعارضة المكرسة سياسياً وعسكرياً، والتي تؤدّي أدواراً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، هي أسوأ مما يقوم به النظام في أحيانٍ كثيرة، كالسجون والمعتقلات، وكذلك مسرحية انتخابات ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية قبل أيام. يضاف إلى ذلك ظهور أجندات خارجية في بعض التحرّكات، كتلك التي تنشط في الجنوب السوري مطالبةً بالإدارة الذاتية، وتندّد في بيانها بالسيطرة الروسية على الثروات السورية، وتقبل بسيطرة الأميركان عليها في الشرق السوري. ويتوجّب على الحركات الجديدة صياغة البرامج الواقعية ورؤيتها للحلول السياسية وكذلك الاقتصادية، لأن البرامج الحقيقية هي التي تستقطب الشعب حولها، بعد فشل انتفاضة 2011.
ليس في مقدور هذه الحركات السياسية المستجدّة، ولا تجدّد انتفاضة الشعب السوري في الداخل، إحداث تغيير سياسي في ظل الوضع السوري المركّب مع تعدّد الاحتلالات وتعدّد مناطق النفوذ. لكن الصراعات الدولية، خصوصا بين روسيا والغرب، وكذلك حالة العداء لإيران، وما استجدّ من الموقف الأميركي بزيادة الاهتمام بالشرق الأوسط، قد يقود ذلك كله إلى رغبة الغرب بمعاقبة روسيا وإيران. وهنا من الممكن أن ترجّح الاحتجاجات الداخلية الكفة باتجاه إجبار النظام السوري على القبول بالتغيير السياسي.