سورية في شعار بايدن "عودة أميركا"
يتسلم الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، وفريقُه، قيادة البيت الأبيض رسمياً في العشرين من الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني)، من دون مؤشرات على تغييرات جوهرية في السياسة الأميركية تجاه سورية؛ فشعاره "عودة أميركا" محكومٌ بواقع تعترف فيه واشنطن بأنّها لم تعد المتحكّم الأوحد في عالم رأسمالي بات متعدّد الأقطاب، مع صعود الصين الاقتصادي وحلفائها، وأن على واشنطن أن تستعين بشركاء لتطبيق سياساتها الرأسمالية في العالم، ومنها الشرق الأوسط. على هذا الأساس، كان اتفاق جنيف في العام 2012 بين الرئيسين، الأميركي أوباما، والروسي بوتين، تعترف فيه واشنطن بأن سورية منطقة نفوذ روسي، وأن على الأخيرة أن تقود الحل السياسي بإقرار مرحلة انتقالية، من دون حسم ما إذا كان بشار الأسد سيقودها أم لا.
متغيرات كثيرة جرت لاحقاً، أهمّها التوغل الإيراني في سورية، والذي غضّت عنه موسكو النظر، وواشنطن أيضاً، في مقابل دور المليشيات الإيرانية المفصلي في دعم النظام ومنعه من السقوط. وتمدّد تنظيم الدولة الإسلامية من العراق إلى الشام، وما ترتب على ذلك من تدخل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربته، فيما فشلت السياسة الروسية في سورية في اختيار مساراتٍ أخرى تراهن عليها، غير إعادة تدوير نظام الأسد. وقد مكّنت هذه المتغيرات واشنطن من امتلاك أوراق ضغط قويّة تجاه موسكو، عبر سيطرتها على شرق الفرات، حيث تتركّز منابع الطاقة والثروات الزراعية؛ إضافة إلى ورقة العقوبات الأميركية على رجالات النظام السوري، وعلى كل من يدعمه، وفق قانون قيصر، وعرقلة أي مساعٍ روسية لإعادة الإعمار من دون حل سياسي يحقق الشروط الأميركية. لكن فريق بايدن لم يقل الكثير عن سورية سوى مزيد من التشدّد في محاصرة النظام، عدا عن تصريح المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة عن عدم شرعية انتخابات الأسد التي يزمع إجراءها العام المقبل.
فريق بايدن لم يقل الكثير عن سورية سوى مزيد من التشدّد في محاصرة النظام، وعدم شرعية انتخابات الأسد التي يزمع إجراءها العام المقبل
تميل السياسة الأميركية إلى إعطاء مناطق الإدارة الذاتية بعض الاستقلالية، وعرقلة المساعي الروسية بعودتها إلى حضن النظام. وأربك قرار ترامب سحب القوات الأميركية من سورية قبل عامين الإدارة الأميركية التي عملت على تجاوزه، عبر الاكتفاء بالسيطرة على الحدود العراقية – السورية، لمراقبة تحرّك المليشيات الإيرانية، وعلى قاعدة التنف على المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني، وعلى حقول النفط والغاز شرق الفرات. لكن هذا الانسحاب غير المدروس ارتبط بسيطرة تركيا على شريط "نبع السلام"، وتمركز روسيا في مواقع القواعد الأميركية المنسحبة، وزاد من وتيرة تواصلها مع قيادات الإدارة الذاتية الكردية والعربية.
تسعى السياسة الأميركية في الفترة الأخيرة إلى المصالحة بين "قوات سورية الديمقراطية" والمجلس الوطني الكردي، وتهدئة مخاوف تركيا، بالعمل على إبعاد قيادات حزب العمال الكردستاني من الواجهة، وهناك عقد استخراج النفط من حقول شرق دير الزور الذي وقعته شركة دلتا الأميركية مع "مجلس سورية الديمقراطية". ويصبّ ذلك كله في استمرار دعمها استقلالية الإدارة الذاتية، لكن ضمن صيغة تبقي على مركزية ما في سورية.
تميل السياسة الأميركية إلى إعطاء مناطق الإدارة الذاتية بعض الاستقلالية، وعرقلة المساعي الروسية بعودتها إلى حضن النظام
تصريحات المبعوث الأميركي إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (المستقيل)، جيمس جيفري، أخيرا عن استمرار الدعم الأميركي لتركيا في إدلب، وأن النظام لن يعود إليها، تؤكّد على السياسة الأميركية المتّبعة حيال ملف إدلب، وهي تعزيز مناطق النفوذ منذ مارس/ آذار الماضي، حيث دعمت واشنطن إنزال تركيا جيشها واستخدامه الأسلحة الثقيلة، ومنع تقدم النظام وحلفائه. وعلى الرغم من أن هذا الجيب الحدودي مع تركيا حول إدلب لا تسيطر عليه تركيا تماماً، وهو محكومٌ من هيئة تحرير الشام، المصنّفة إرهابية في القوائم الأميركية والدولية؛ لا يبدو أن محاربة "الهيئة" ضمن أولويات واشنطن، على عكس ما فعلته مع تنظيم حرّاس الدين، الموجود في الشمال السوري؛ فـ"الهيئة" لا تشكل خطراً حالياً خارج سورية، وهي تقوم بما يقوم به النظام من قمع المواطنين، وتتولى مهمة ضبط الجهاديين في المنطقة، ومنهم مهاجرون، كما أن استمرار التوتر مع النظام ومليشيات إيران يشكل استنزافاً لكل الأطراف.
وقد وافقت واشنطن على كلّ اتفاقات التسوية والمصالحة التي قامت بها موسكو مع تركيا، واستعادة سيطرة النظام على مناطق واسعة، بل كانت عرّاب اتفاق الجنوب، برفقة الأردن والإمارات، وبدعم إسرائيلي. وبالتالي هي تدعم السيطرة الروسية على تلك المناطق، وكذلك لا تعارض معظم مسارات الحل الروسي بشأن مؤتمر سوتشي مطلع 2018، ومسار أستانة مع تركيا وإيران، ومسار اللجنة الدستورية، لكنها عارضت الهراء الروسي عن مؤتمر عودة اللاجئين في دمشق، من دون حل سياسي. ولم تقل معظم التصريحات الأميركية الرسمية بشرط التخلي عن الأسد، بل قالت إن عليه تغيير سلوكه، على الرغم مما ارتكبه من مجازر. تركّز الولايات المتحدة الآن على تقليص الوجود الإيراني في سورية، وتعمل على إضعاف إيران في سورية ولبنان والعراق، والضغط عليها في ما يتعلق بشروط جديدة عن إعادة العمل بالاتفاق النووي، وتريد إرضاء إسرائيل بمنع تشكّل "حزب الله" سورياً في الجنوب، وإرضاء الحلفاء من العرب، الرافضين للنفوذ الإيراني في المنطقة. لكن الدور الإيراني في سورية خدم السياسات الأميركية في تعزيز الطائفية في المنطقة، حيث تتوغل إيران داخل المجتمع السوري في دير الزور ودمشق وحلب؛ وواشنطن لم تمنع مليشيات إيران من المرور على بعد عدة كيلومترات من قاعدة التنف الأميركية.
وافقت واشنطن على اتفاقات التسوية، وكانت عرابة استعادة سيطرة النظام على مناطق واسعة، في الجنوب، برفقة الأردن والإمارات، وبدعم إسرائيلي
في المجمل، لا يمكن أن تدعم السياسات الأميركية، مهما تغيّر وجه حكامها، ثورات الشعوب، هي تدعم كل ما يقمعها، من أنظمة ومن تطرّف إسلامي، ومن صراعات طائفية وقومية وغيرها. للنظام دور في هذه السياسات، هو تدمير سورية، وهي تضغط على الحليف الروسي، لكي يؤدي الدور الذي قامت به هي في العراق، أي تحطيم سورية بترسيخ تقسيماتها إلى كانتونات بطابع طائفي أو قومي. هي ليست مؤامرة على سورية، كما يدّعي النظام ومحور المقاومة، بل مؤامرة على مجمل العالم العربي، حيث الخوف من نهوض هذه الشعوب وإسقاط أنظمتها والتقائها في مشتركات قوة. ومن هنا، كان لا بد من نماذج سيئة، كسورية واليمن وليبيا وقبلها العراق ولبنان، لإخافة بقية الشعوب العربية من الثورات ..
لن تخرُج "عودة" بايدن عن هذه السياسات، بل قد تسرّع عجلة التطبيع العربي - الإسرائيلي، وربما يُغلق الملف السوري في هذا السياق.