سورية بين وثيقتين وصراع القوى العظمى

26 ابريل 2024
+ الخط -

قبل نحو تسعة أعوام؛ في 18 سبتمبر/ أيلول، أعلن المجلس الإسلامي السوري وثيقة المبادئ الخمسة. وقّع عليها نحو 140 من الشخصيات والكيانات والفصائل السوريّة المُعارِضة، وتتضمّن "مجموعة ثوابت وطنية لقطع الطريق على محاولات إجهاض الثورة السورية وإعادة تأهيل النظام السوري"، كما أُشهِرَت حينها. اليوم، وبعد تسعة أعوام، تغيّرت فيها الجغرافيا السورية والمجتمع السوري، الذي أصبح "مجتمعات"، وتغيّرت ديمغرافيا سورية، والمنطقة والإقليم والعالم، يُعلن سوريون من مختلف شرائح المجتمع السوري في الداخل والخارج، في 18 إبريل/ نيسان الحالي، وثيقةً تحت عنوان "وثيقة المبادئ الخمسة - سورية دولة للسوريين"، أكّدوا فيها بمناسبة ذكرى "استقلال" سورية؛ في 17 إبريل، على خمسة مبادئ أيضاً.

وضعت الوثيقة الأولى مبدأ "إسقاط بشّار الأسد وجميع أركان نظامه، وتقديمهم للمحاكمة العادلة" في أول القائمة، بينما استهلت الوثيقة الحالية مبادئها بإعلان "أحقّية التظاهر السلمي سواء الجاري والمستمر في السويداء منذ ثمانية أشهر ضد سلطة النظام أو ضد قوى الأمر الواقع العنصرية والمتطرفة، وفي أيّ منطقة سورية"، وهذا ينمّ عن دراسة متغيرات الواقع. وإذا كانت الوثيقة الأولى قد نادت بخروج "كل القوى الأجنبية والطائفية والإرهابية من سورية" (الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، ومليشيا أبي الفضل العباس، و"داعش")، فإنّ الوثيقة الحالية نادت بخروج "القوات الأجنبية والمليشيات الطائفية والمتطرفة (كافّة) وعودة الأمن والأمان في جميع الأراضي السورية". في الواقع، سورية محتلّة من عدة جيوش، عدا الفصائل المسلّحة التي ترعاها من الخارج دول أخرى، فإذا كان المطلوب هو "وحدة الأراضي السورية"، كما تشير الوثيقتان، فلا بدّ من أن تكون كلّ الأطراف الموجودة، بالفعل وبالوكالة، على الأرض السورية مستهدفة من دون تمييز.

إنّ مشكلاتنا في سورية باتت متجذّرة وأعقد من أي وثيقة، مع احترام نيّات وجهود كلّ الحريصين على وحدة التراب السوري، وسلامة شعبه، ولن يكون هناك حلّ، مهما صَفَتْ النيات وازدادت حزمة المتوافقين أو المتّفقين على مبادئ أساسية، من دون ترتيب أمور المنطقة؛ حلّ القضية السورية يتبع حلّ كلّ القضايا العالقة، وأولها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والصراع الإيراني الأميركي، وترتيب مصالح إيران وتركيا إقليمياً، أمّا صراعات الدول الكبرى أو صراع أميركا وحلفائها، مع روسيا وحلفائها، فهذا مرهون بنتائج الحرب في أكرانيا، وبإدارة الحرب الباردة بين أميركا والصين.

مفهوم العلمانية، التي تعدّ مصطلحاً مذموماً لدى بعضهم، بحاجة إلى إعادة تأصيل في وعي الشعب، ما دام أنّها تشكّل الضامن الأكثر فعّالية لحقوق الجميع

ما تطرحه هذه المقالة ليس تشاؤماً أو يأساً، إنّما هو واقع من التعقل الإقرار به، فما وصلت إليه سورية والمنطقة يزداد "بؤساً"، وتزداد الفجوة اتساعاً في الواقع بين مكوّنات الشعب السوري، فمهما كانت الوثائق شاملة وملمّة بمطالب يحتاج إليها تغيير الوضع وتشكّل عتبات أساسية من أجل بناء سليم في المستقبل، فإنّ وعي الحاضنة الشعبية المأمولة أو التي تناديها الوثائق وتضعها في صلب أهدافها، أمر ضروري وأساس، إذ ما زلنا إلى اليوم، ورغم كلّ الأثمان التي دفعها الشعب، وتقسيم سورية إلى مناطق احتلال ونفوذ، نسمع الخطاب الطائفي على ألسنة المحلّلين، الذين تمطرنا الشاشات والمواقع بأحاديثهم، وعلى ألسنة بعض السياسيين أو أصحاب النفوذ وصنّاع القرار في المناطق السورية. ليس الخطاب الطائفي فحسب، بل العنصري من قبل الشرائح بعضها تجاه بعض، إنّ 12 سنة من "الخراب" السوري، قد دقّت أسافين التعصب والتفرقة، هذا أمر واقع لا يمكن تجاهله، ولم يُخلق من العدم بعد انتفاضة الشعب السوري وانزلاقها إلى العسكرة أمام العنف الذي قوبلت به، ثم ارتمائها في أحضان القوى الإقليمية والخارجية، من كلّ الأطراف، بل كان مخبّأ كجمرة تحت رماد الشعب، الذي كان يحترق على مهل طيلة عقود، وطيلة عقود أيضاً، أفرغت الشعارات التي كان النظام السياسي يُشهرها بينما الواقع يناقضها تماماً، فأصبحت بعض المصطلحات مرفوضة ومنبوذة بسبب ما ترجمت إليه في الواقع، وأكثرها أهمّية "علمانية" الدولة والمجتمع، فسورية لم تكن في يوم من الأيام دولة علمانية، ولم يكن الشعب في غالبيته يترجم هذا المصطلح في ممارسة حياته، سورية تعزّزت فيها على مدى العقود الماضية أسس الانتماء الديني والطائفي والقبلي، فصار الشعب مكوّنات متجاورة تشكّل مجتمعاً يبدو من الخارج أنّه مستقر، بينما كان يمور في عمقه بالخلافات بين مكوّناته، واستقراره كان حالة استنقاع تضبطه سلطة قوية قمعية. لذلك، فإنّ مفهوم العلمانية، التي تعدّ مصطلحاً مذموماً لدى بعضهم، بحاجة إلى إعادة تأصيل في وعي الشعب، ما دام أنّها تشكّل الضامن الأكثر فعّالية لحقوق الجميع في ممارسة شعائرهم وطقوسهم، من دون أن تطغى فئة على أخرى، وتصادر حقّها في ترجمة حياتها سلوكاً وواقعاً.

العلمانية كانت بالنسبة إلى الشيخ أحمد الصياصنة الكلمة التي دفعته إلى الانسحاب من الوثيقة الأخيرة، بعدما كان قد وقّع عليها، لسببين بيّنهما الصياصنة. الأول، إنّه جرى تعديل الوثيقة بعد توقيعه، وهذا أمر مقبول، فأيّ فرد من حقّه الانسحاب من موافقته على أمر مُنجَز يُعدّل فيما بعد. والثاني، كان مفهوم العلمانية الذي لا يوافق عليه، على الرغم من أنّه أتبع رفضه بقوله "لست مع طائفة ولا مع حزب ولا مع أيّ أيديولوجية"، فماذا عن العقيدة الدينية، وعن الحكم وفق الدين والشريعة؟ فإذا كان "مع كلّ سوري في كلّ مكان... ومع السوريين جميعاً"، فلماذا يرفض العلمانية ما دامت تحفظ لكلّ سوريّ حقّه إذا ما طُبّقتْ قولاً وفعلًا؟

لن تكون كلّ الوثائق التي يمكن أن يضعها ممثلون للشعب السوري، مع احترام النيّات كلّها، قابلة للحل والتطبيق، قبل ترتيب القضايا التي تعدّها القوى الكبرى أكثر أهمّية وأولى

ما نحتاج إليه، قبل الأمل في ترجمة أيّ وثيقة إلى فعل، هو توعية الشعب السوري وطرح أفكار أمامه، وتوضيحها، كي يكون قادراً مستقبلاً على ترتيب واقعه، والبدء في لملمة شظاياه، بعد هذا التخريب كلّه، والدمار الذي مورس في حقّه.

كان من المجدي وضع وعي الحاضنة الشعبية أولويةً بالنسبة إلى الجهات التي نَصّبت نفسها ممثلة للشعب وقضيته وتطلعاته، فمن دون وعي قادر على استيعاب كلّ المفاهيم مقدمةً لاختيار الأنسب لن يكون هناك إشراك فعلي للشعب بجميع مكوناته في المرحلة المقبلة، التي لا يمكن التكهّن بالمسافة التي تفصلنا عنها، فنحن جزء من أزمة كبيرة، كلّ ما حولنا خراب، وكلّ الدول المجاورة تعاني المشكلات المستعصية، من دون أن ينجز ترتيب المصالح بين الدول الكبرى والإقليمية، والعالم اليوم يوجّه جلّ اهتمامه إلى الحرب الإسرائيلية على غزّة، التي هي بالنسبة إلى إسرائيل وداعميها جسر عبور فائق الخطورة والحساسية، في طريق تحقيق استراتيجية إسرائيل المدعومة من أميركا والغرب، إلى اليوم على الأقلّ. تلك الاستراتيجية التي تهدف منذ إعلانها إلى القضاء على القضية الفلسطينية، بمحدّداتها كلّها، من مشكلة اللاجئين، وحقّ العودة، الذي تترجمه المحاولة الحثيثة من أجل القضاء على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من منطلق أنّ اللجوء لا يستمر إلى الأبد، وأنّه آن الأوان للكفّ عن اعتبار الفلسطينيين في الشتات لاجئين، إلى القضاء التام على فكرة الدولة الفلسطينية، ومن ثمّ محو الهوية الفلسطينية مع الزمن.

هذا الصراع تستند إليه القوى الكبرى والإقليمية. لذا، لن تكون القضية السورية، وكلّ الوثائق التي يمكن أن يضعها ممثلون للشعب السوري، مع احترام النيّات كلّها، قابلة للحل والتطبيق، قبل ترتيب القضايا التي تعدّها القوى الكبرى أكثر أهمّية وأولى.