سماحة المفتي.. أو سياحة المفتي في لندن
حتى وقت قريب، كان بإمكان أي سائح أجنبي في بريطانيا أن يشتري تذكرةً لزيارة مجلس العموم البريطاني، ويحضر جلسة استماع مع لجنةٍ من لجانه ويتحدّث فيها، ويحظى بجولةٍ في جميع غرف البرلمان، مقابل نحو خمسين جنيهًا بالعملة البريطانية.
كان ذلك متاحًا حتى ما قبل ظهور جائحة كورونا، وأظن أنه لا يزال كذلك، وهو الأمر الذي يمنح مساحاتٍ لأي باحثٍ عن دعاية سياسية أو شهرةٍ لكي يدلّس على الجمهور بأنه أجرى مباحثاتٍ مع مجلس العموم البريطاني بشأن قضيةٍ ما من القضايا المثارة في بلده.
في الحالة المصرية، كان هناك من يلتقط لنفسه صورةً في مدخل مجلس العموم، ويكتب أنه في الطريق الآن لعقد جلسة مباحثاتٍ مهمةٍ مع البرلمان البريطاني سيقلب بها الدنيا على سلطة الانقلاب في مصر، ويزلزل الأرض تحت أقدامها.
هذا النوع من الدجل السياسي كان ينطلي على بعض الطيبين، فينظرون إلى صاحب الصورة على أنه بطلٌ قوميٌّ يناضل من أجل شعبه، ويدعون له بالتوفيق والسداد وطول العمر.
شيء من ذلك يمكن أن تقوله عن زيارة مفتي مصر إلى العاصمة البريطانية، والتي كان من الممكن أن تمرّ، مثل أي رحلة سياحية، تشتمل على زيارة مجلس العموم والمشاركة في جلسة استماع في واحدة أو أكثر من غرفه، من دون أن يعلم عنها أحد، لولا أن مجموعات من المعارضة المصرية كلفت نفسها متابعة تحرّكات المفتي، ونظمت وقفة صغيرة أمام مبنى مجلس العموم مندّدة بوجوده في بريطانيا، ونشرت لقطاتٍ على مواقع التواصل الاجتماعي للمفتي بين خمسة أو ستة أنفار من أصحاب الأعمال التجارية المقيمين في لندن، يصافحون أعضاء في مبنى البرلمان.
تفاصيل جولة سماحة المفتي، أو بالأحرى سياحة المفتي، مضحكةٌ ومهينةٌ لمنصب المفتي في مصر، وهو المنصب الذي يعادل مرتبة وزير، وهو أعلى مرتبة دينية بعد فضيلة شيخ الأزهر، ومن ثم كان من المتصوّر حين يزور بريطانيا، لو كانت الزيارة رسمية، أن يكون مدعوّا من الحكومة البريطانية، وليس من شلة أصحاب أعمالٍ ينظمون له جولة سياحية، تتضمّن رحلة إلى مجلس العموم.
لكنها لعبة اللقطات الفوتوغرافية والتلفزيونية التي تمارسها أجهزة النظام المصري منذ سنوات، فتحوّل كل خطوة تافهة إلى إنجاز كبير واختراق سياسي مذهل، كما هو الحال مع الزفة المقامة في إعلام القاهرة للاحتفاء برحلة المفتي إلى معالم لندن.
في الإعلام البريطاني، لا تجد أثرًا أو خبرًا يتناول رحلة مفتي مصر باعتبارها زيارة رسمية، سوى تقرير في موقع ميدل إيست آي يتحدّث عنه بوصفه مفتي عبد الفتاح السيسي، صاحب السجل الأسوأ من التصديق على مئات من أحكام الإعدام الصادرة بغير محاكمات حقيقية.
لا يفتئت أحد على شوقي علام، حين يقول عنه إنه "مفتي السيسي"، كونه مستمرًا في منصبه، بناء على رغبة شخصية من الجنرال الذي يحاول بكل السبل تحجيم دور ومكانة شيخ الأزهر، الذي لا يزال يحتفظ للمنصب بهيبته ووقاره واحترامه، ولا يلبّي رغبات الجنرال الشخصية.
أصدر الجنرال عبد الفتاح السيسي، في أغسطس/ آب العام الماضي، قراراً حمل رقم 338 لسنة 2021، يمنحه صلاحية اختيار المفتي منفرداً، معتبراً دار الإفتاء المصرية من الجهات ذات الطبيعة الخاصة التي لا تسري على الوظائف القيادية والإدارة الإشرافية فيها أحكام المادتين 17 و20 من قانون الخدمة المدنية، وذلك حتى يحتفظ، لأطول فترة ممكنة بالمفتي المفضّل له، والذي يلعب أدوارًا أمنية وسياسية، أكثر مما يمارس الفتوى الدينية. وقد حوّل هذا القرار دار الإفتاء إلى غرفة ملحقة بغرف العاملين في خدمة القصر الرئاسي، وفي أوقات الفراغ تؤدي أدوارًا لصالح المنظومة الأمنية، وتمارس الدعاية والترويج لمسلسلات دراما الجيش والشرطة.
سوف يستمتع المفتي بجولة سياحية في بريطانيا، وسيلتقي جمهور الجنرال في مناسبات وندوات خاصة، وسيتحدّث في غرفةٍ أو أكثر من غرف مجلس العموم، من دون أن يتطرّق، مثلًا، إلى التنكيل بالمواطن البريطاني المصري، علاء عبد الفتاح، وغيره من بريطانيين في زنازين السيسي لا يكتب عنهم أحد.. ثم يعود محمّلًا ببعض المشتريات من "أكسفورد ستريت"، وستتحدّث القنوات والصحف في مصر، بالطبع، عن الزيارة التاريخية الناجحة الناجعة للمفتي إلى بريطانيا العظمى.