سلمان رشدي .. الآيات والهَنات

19 اغسطس 2022

سلمان رشدي في حديقة فندق في بلدة جنوب ريو دي جانيرو في البرازيل (8/9/2005/فرانس برس)

+ الخط -

منذ وعيتُ على الحياة، الوعي الكافي لأنظر خلف المدى، وأنا أسمع عن أزمة سلمان رشدي. منذ ثلاثين سنة والأزمة قائمة، ولو في صمت، فلبعض الأزمات خاصية الكُمون في انتظار لحظة الاشتعال المتجدّد، حين ينكش أحدهم عشّها. حتى لو نسي العالم فتوى هدر دم رشدي، فماسكو الدُّمى بقفاز الدّين، وأيديهم ملطخة بالسّياسة، لم ينسوا. يبدو التوقيت مريباً، لكن ما من وقتٍ مناسب للقتل، وما من وقتٍ غير ملائم لسياسة الدُّمى، وما من وسيلةٍ لصنع الأزمات، أو إطفائها أو تدبيرها، مثل استغلال الدين، فلا أحد على الأرض لا يملك موقفاً تجاه الدين، إمّا معه أو ضده. كما أننا لن نعدم ظرفاً سياسياً يستدعي فتح الملف.
بدا أن الموقف في أزمة سلمان رشدي شائك، إمّا معه أو ضده. وفي ذلك يرى بعضهم أنه ضدّ الدين أو معه. ولكن الوقوف مع حق سلمان رشدي في الحياة وحرّية التعبير لا يعني الهجوم على الإسلام. والتّرافع عن الإسلام، ممن يرى حاجة لذلك، لا يعني الاعتداء الجسدي على رشدي. لا يمكن المُقابلة بين الإسلام ورشدي، واعتبار الإسلام ضدّ حرية التعبير، فتلك معركةٌ مجّانية لا رابح فيها. لكن لم يُستهدف رشدي من دون غيره ممن أساءوا إلى الإسلام؟
ذنب رشدي أن كتابه ظهر في سياق سياسي مشتعل، كان التنافس فيه شديداً بين تيّارات استثمرت الشعارات الدينية في صراعها السياسي، وهو سياق التنافس الإيراني السعودي بعد الثورة الإيرانية. لذا فإن الانتقام منه سياسي، لأنّ الاسلام لا يحتاج دفاعاً عنه بالدم، أو بأي شيء آخر، فلطالما أساء كثيرون للإسلام ورموزه، في كل العصور، بما فيها في أثناء حياة النبي، بل وأساء بعضهم إليه هو نفسه، في حياته، ولم يُقتل أحد منهم. وحادثة الإفك دليلٌ على أن هناك مسّاً بعرض السيدة عائشة، في ذروة انتشار الإسلام، ولم يُقتل المذنب.
إذن، لم يردّ الإسلام على الإساءة بالقتل، في عهد تأسيس مجتمعه الأول، بينما هناك من يرى ذلك، في عصر المليار ونصف مليار مسلم. لا يعني ذلك أنّ الإساءة مقبولة أو محمودة. لكنه قرارٌ يعود إلى حكمة الكاتب أو المبدع، هل يبحث عن كتابةٍ تحترم الآخر، فلا تحرّض ولا تمسّ بمعتقد أو جنس أو طائفة أو ثقافة الغير، أم أنه لا يكترث أو يتعمّد إثارة مشاعر الآخر من أجل فكرةٍ ما؟ وما كتبه رشدي يأتي ضمن قناعته بالنظر إلى الموروث الديني كاملاً على أنّه جزء من التراث الجماعي لبلاده لا غير، لا قدسية له ولا لرموزه. ويمكن النظر إليه أيضاً انتقاما ضد الدين.
في كلتا الحالتين، لا يمكن خوض معركةٍ تهدف إلى إخراسه، فهي معركةٌ محسومة لصالحه. والاطلاع على عدد الذين ذهبوا زرافاتٍ من أجل كتب رشدي، يكفي لمعرفة الجواب. ففي معركة السيف ضد الكتاب، ينتصر الكتاب دائماً. وعندما تخوضُ جهةٌ ما معركةً ضد الكتاب بالكتاب، يفوز الكتابان معاً. الكتابة تقوم على الحرّية، ومن لا يعجبه تصرّف كاتب فيها، يكفي ألا يقرأ له، ويمكن أن يواجهه بالكتابة المضادّة أو المختلفة عن السياق نفسه. السؤال المطروح، لم لا تخيف ملايين من المنتجات المضادّة للمعتقدات والأديان والمذاهب، ذوي العقول المسطّحة، مثلما يخيفهم كتاب؟ أليست القراءة هي الأكثر نخبويةً بين الأنشطة الإبداعية كافة؟ هل للكلمة سلطة أكبر من سلطة الصورة في عصر الصورة؟
المسؤول الحقيقي عن محاولة القتل هو استغلال الدين من أجل مصالح سياسية أو شخصيّة. والأنظمة خير من يجمع بين الاثنين، تسييس الدين وإلباس السياسة غطاء دينياً، فالتعصب الديني ليس سببا مباشراً، لأن المتعصّبين كثر، في كل الأديان، ولا يقتل كل منهم من يرى أنهم أعداء دينه. كما أن الجدل بشأن مسؤولية الإسلام وخطره على حرية الإبداع مفتعل، ويقابل وجهة النظر المتطرّفة بأخرى مثلها. لا يمكن تحميل الإسلام أو القرآن مسؤولية العنف الذي يمارسه مسلمون باسمه، أو لإخضاع عقول غرّة، لارتكاب جرائم ضد الآخر. بل السياسة من يفعل ذلك، مع ضيق الأفق، والغلوّ في الانتماء.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج