سلام الأمر الواقع
في هامش ما يحدث في غزّة من مآس إنسانية، ومحاكمة أخلاقية للعالم كلّه ممرّغةً بدماء وجثث الأطفال، يبدو ما يجري في الضفّة الغربية تحت ظلّ داكن. فحسب صحيفة تايمز أوف إسرائيل، بنيت في الأشهر العشرة الماضية أكثر من 24 بؤرة استيطانية (الاسم المُلطَّف للمستوطنات التي لم تحصل على موافقات رسمية)، بينما حصلت الموافقة على بناء آلاف الوحدات الاستيطانية الأخرى، وكانت نسبة زيادة الاستيطان منذ السابع من أكتوبر (2023) ما بين 7% و10%.
هذه البؤر الاستيطانية، القديمة والحديثة، والمستوطنات (الاسم الشائع للتي حصلت على موافقات للبناء)، تضرب عُرْضَ الحائط بالقرارات الدولية، والشرعيات الإنسانية والأخلاقية كلّها، من دون خشية من أيّ أحد. في المقابل، تكاد قدرة فلسطينيي الضفّة على إعادة بناء وحداتهم السكنية المهدّمة أو القديمة، أو بناء وحدات جديدة، تقارب صفراً بالمائة، بسبب مجموعة من الإجراءات الإسرائيلية البيروقراطية المُعقّدة، وهذه معلومات شائعة وليست أسراراً، تردّدها المنظّمات الدولية المراقبة لحقوق الإنسان.
مُجرَّد متابعة ملف الاستيطان، الذي رُكن اليوم بسبب المآسي في غزّة، تجعل المراقب يصل سريعاً إلى حالةٍ من اليأس والعجز، وهو يرى أنّ النقطة البعيدة في خطط اليمين الصهيوني المُتطرّف، المُهيمن على السلطة في إسرائيل، لا تقف عند شيء إيجابي بالنسبة للفلسطينيين، وإنّما جعل العيش في الضفّة جحيماً مضاعفاً، وأنّ الاستيلاء على "يهودا والسامرة"، وطرد سكّانها باللطف أو التضييق، أو الإرهاب بمختلف أشكاله، يبقى هدفاً استراتيجياً وضرورياً.
يوضح هذا الملفّ من دون لبس أّنّ إسرائيل لا تسعى بجديّة إلى السلام، وإنّما الاستفادة من ميزان القوى لفرض الأمر الواقع، وإجبار الفلسطينيين، في يوم ما لا يلوح في الأفق، على القبول بهذا الأمر الواقع، أيّاً كان شكله الصادم وغير المريح. في الصورة الشاملة فإنّ لوم الراديكالية الفلسطينية لا يُكمل الصورة، وإخراج إسرائيل من أيّ لوم، وتصويرها بصورة الضحية، لا ينفع في الوصول إلى حلّ، إن كان هناك إيمان صادق بالحاجة إلى حلّ. خصوصاً حين تضرب الإجراءات الإسرائيلية غير القانونية كلّ إمكانية للحلّ بعُرْضِ الحائط.
في حال لم تدخل المنطقة (عن طريق الخطأ) في حرب إقليمية شاملة، فإنّ المسار الآخر للأحداث هو الانتهاء إلى وضعٍ مُؤقَّتٍ جديدٍ، حيث تضغط الحاجات الإنسانية، والوضع الكارثي في غزّة، لإيجاد شكل من أشكال الهدنة، كما أنّ نتنياهو، واليمين المُتطرّف المساند له، سيتحجّجون بالاحتياجات الأمنية لرفض أيّ مشروعِ تسويةٍ دائمٍ، يُؤدّي إلى ولادة الدولة الفلسطينية، حتّى وإن كانت دولةً مقطّعةَ اليدين والرجلين، في جزء ممّا أخرجته اتفاقية أوسلو (1993) أصلاً.
بالنسبة لمن يرغب في إنهاء الراديكالية الثورية الفلسطينية، والخطابات التي توصف بأنّها مُتطرّفة، فإنّ الوضع الموصوف أعلاه لا يساعد في ذلك، بل بالعكس، يُعزّز ذهاب الأجيال الجديدة إلى تطرّف وتشدّد أكثر، لأنّ من الصعب إقناع هذه الأجيال بأنّ الطرف الاسرائيلي يعمل على صنع السلام، فلو كان يريد ذلك، ففي الأقلّ لتوقف الحكومات المتعاقبة هذا النمط الثابت بدعم الاستيطان غير الشرعي في الضفّة الغربية، وفي القدس الشرقية، ما يقلّص بالتدريج تلك الأراضي التي يمكن أن تكون للفلسطينيين، وتمنع أيَّ وحدةٍ أو تواصل بين هذه الأراضي.
في السنوات العشر الماضية، كان أصدقاء عديدون في مدن الضفّة الغربية يروُون لنا حجم التحدّيات النفسية، التي يواجهونها كلّ يوم، بالتنقل بين مدينة وقرية وأخرى، وكيف أنّهم يضطرون للوقوف في طوابيرَ طويلةٍ، تستهلك ساعات من نهارهم وليلهم، من أجل الخضوع لإجراءات التدقيق الأمني عند نقاط التفتيش الاسرائيلية، وهي، للمفارقة، تُذكّرنا بالإجراءات التي كانت تتّخذها وحدات الشرطة العسكرية الأميركية في شوارع بغداد، في أيّام الاحتلال ما بعد 2003.
اجراءات الأمر الواقع القائمة على الإذلال والإذعان لن تُؤدّي إلى حلولٍ دائمةٍ ومستقرةٍ، وقد يتقبّل الكبار أحياناً تلك الإجراءات تحت عنوان "الواقعية" و"العملية"، ولكنّ الأجيال الأكثر شباباً المملوءة عنفواناً وحماسةً سيكون لها رأيٌ آخر غالباً.