سعر الدم الفلسطيني في بنوك الدم
أتكلّم عن الكرامة وليس عن دهاليز السياسة المرتبطة بالخوف على الكرسي، ولا نقول الخيانة تأدّبا فقط، وإنْ كانت كل الأشياء واردة في مقام التعساء في الأمل. أتكلّم عن الانتحار الجميل الذي سوف لا يُغضب ملائكة اليمين ولا الشمال، بل سيزيد شرف العربي، حتى وإن كان بعيداً جدّاً عن الحرب وعن حدود "إسرائيل" الآمنة جداً.
أتكلم عن تصوّف الأشقياء والخلصاء وسماحتهم حتى في الحرب، حتى وإن كانت الحربُ خالية من مياه التصوّف وبركاته، ولكنها قريبة جدّا من التكرّم بلطف بتقديم الروح لله، وذلك تشرّفا للروح نفسها بعيدا عن شعارات الساسة وأنيابهم السامّة وألاعيبهم، وبعيدة، بالطبع، عن جنوح الشعوب وشعبويّاتها الهشّة التي تتماشى مع مياه الأحداث بخفّة المراهقين نصرة لأزماتهم الخاصة بهم، ولكل تعيس بالطبع أزمته الخاصّة جدّا والمطبوعة بالتأكيد في ثنايا ملامحه، ويراها اللبيب واضحة.
أتكلّم عن السهم، حينما يكون حرّاً والروح حينما تكون حرّة حتى وإن تشارك العالم في المسألة، وأعلن عن تعاطفه مع غزّة وفلسطين وأطفالها وحقهم في دولة لهم. أتكلّم عن كرامة اللاحساب واللاواقع واللابنكي واللادبلوماسي، والذي لم يتم طبخه في الدهاليز وعلى استحياء وعلى أعين الأجهزة الأمنية السهرانة في انتظار من يضعُف أولاً، وكم عدد الرؤوس في المقابر بعد المقامرات الخسيسة ليلاً ونهاراً.
الكرامة لا تفهم في الحسابات، وليس معها دفاتر خشية من أحد، أي أحد، وليس معها أي حساباتٍ معقّدة لصافي الأرباح المتوقّعة لأسبوع البورصة المقبل. الكرامة في الحرب كالكتابة، كجان جينيه حينما ينتصر لفقراء المخيّم ولا ينتصر لفرنسا، كجان جينيه وهو ينتصر لروحه وينام في العرائش، ويهجر قبور الخالدين ومتاحفهم. في الكرامة كتابة ما غامضة، غامضة ولكن تتم قراءتها بالبصيرة من دون دلالات مفتوحة أو كليّة. أصحاب الكرامة أصفياء، لأنهم داسوا على الأهداف في كل بنوك الدم التي تنتظر صافي الأرباح أو ارتفاع الأسعار.
الكرامة غامضة، ولذا يخافها التعساء جدّا، التعساء فقط يجرفون الدساتير يوماً بعد يوم، خوفا من أن تورّق الكرامة فوق الأرض شجراً، ولذا كل هم التعساء في بناء السجون، كي تكون الكرامة معزولة هناك بعيدا عن أعينهم وعن الشعب، ومن دون أن يعرف التعساء أن الكرامة لا تموت أبدا في أي شعب، وهذا ما يجعل التعيس دائما في حالة خوف، وهذا بالطبع قد يثير الضحك أحيانا، رغم أن المقام هنا غير مقام الضحك جملة وتفصيلا.
الفلسطيني متورّط في الحياة والعيش وفي أن يحيا، وهو يحيا بالطبع بحسبتِه هو، حسبة كرامته وليس حسبة بنوك الدم، هو يعرف مقصَده وكرامته أكثر من التعساء، لأن عيون التعساء على تسعيرة الدم في بنوك الدم.
يخاف التعيس على دمه، والفلسطيني يعطي دمه بركة لأرضه من قديم الزمان ببساطة، ويعرف أيضا مخاوف التعساء ومصائرهم، حينما تطوى صفحاتهم ونقرأها ببساطة في كتب التاريخ من دون أن تجد لهم أثرا.
وحدها تبقى الكرامة كالكتابة، كقبر جان جينيه في العرائش بالقرب من البحر أو يتأملّه عن بعد. الكتابة بالطبع تُتعب التعساء، ولذا يحرق أغلبهم الكتب أو يلقي بها في البحر، أو يغلق المواقع الإلكترونية أو يغلق الصحف وإن لم يغلقها يحوّل الصحافة والصحافيين إلى كتبة في القصر لزوم أي احتفالٍ حتى طهور الأحفاد.
لماذا ظلّ جان جينيه بهيّا في نومته بقبره في العرائش هكذا، رغم أنه لم يكن قدّيسا معروفا، ولكنه كان قدّيس كرامةٍ صامتةٍ بلا شعاراتٍ، كرامة نفسه أو كرامة ما يحسّه هو، وكرامة ما يراه إنسانياً من دون أن يتباهى بعلم أحدٍ حتى علم فرنسا، فقد اختار لقبره رمال العرائش.
نعم، يختار التاريخ تعساءه جّيدا، وكان قديما يؤرشفهم في الكتب بلا صوتٍ ولا صورة. الآن يؤرشفهم صوتاً وصورة، فقط يهرب التعيس، أي تعيسٍ بما سكنه أو شيّده، وكلها في ما بعد تصير أطلالاً من حسرة، ويهرُب أيضاً بما أكله وشربه، وهذه من تفاهات الوجود.