سعدون جابر في فلسطين

08 يناير 2019
+ الخط -
أياما قبل زيارته نادية لطفي، في مستشفىً في القاهرة، وتكريمه لها بمنحها وسام نجمة القدس، استقبل الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في رام الله، نجم الأغنية العراقية، سعدون جابر، وفاجأه بما يعرف من معلوماتٍ عن المكتبة الموسيقية العراقية التي حُرقت بعد العام 2003، بل وقال المغني المعروف إن عباس أبلغه إنه يحتفظ بتسجيلاتٍ عراقيةٍ نادرة. والظاهر أن الرئيس الفلسطيني صاحبُ مزاجٍ رائق، وبالغُ الحصافة أيضا عندما ينتبه إلى نادية لطفي، ويقوم بتكريمها المستحقّ. والمشتهى أن يتبيّن هذان الأمران (الحصافة والمزاج الرائق) في مسلكٍ سياسيٍّ آخر غير الذي يتّبعه بعصبيةٍ ظاهرة تجاه قطاع غزة وحركة حماس. 

ليس عباس موضوع هذه السطور، وإنما الاسترسال الذي أفضى به سعدون جابر، وهو يحدّث مُحاوِره في المقابلة التي نشرتها الزميلة "القدس العربي" (6/1/2018)، بشأن أشواق اليهود العراقيين في فلسطين (قال فلسطين وليس إسرائيل) للعراق، وتمنّيهم زيارتَه. بل إن صاحب "يا طيور الطايرة" قال إنه يتمنّى على حكومة بلاده أن تدعو هؤلاء لزيارة وطنهم (بتعبيره) العراق، والاستقرار فيه. ويستفيض بلغةٍ وجدانيةٍ مشحونةٍ بشيءٍ من الأسى، في موضوع هؤلاء اليهود (وغيرهم). وللحق، هذه شجاعةٌ ظاهرةٌ من سعدون جابر، عندما يذهب إلى هذه المسألة الشائكة، ويقول فيها قولَه هذا. وهو الذي زار في جولته في فلسطين (نحو عشرة أيام) قبور جنودٍ عراقيين في جنين حاربوا في فلسطين دفاعا عنها، وزار تجمّع المعتصمين في قرية الخان الأحمر، لتحية صمودهم، وطاف في القدس ومخيمات ومدن وبلدات وقرى فلسطينية عديدة (عكا والناصرة مثلا). واحتفى به الفلسطينيون، ومنهم في مواقع رسمية عليا، بفرحٍ كبير. وفي الأثناء، اعتبر المقاومة (بمعناها الشمولي، بحسبِه) الخيار الوحيد أمام الشعب الفلسطيني لاسترجاع حقوقه.
لن تفعل الحكومة العراقية ما دعاها إليه سعدون جابر، لأنّه كلامٌ في الخيال وغريب. ولكن المغني الذي نحب ليس الوحيد الذي يفعلها، ويجهر بدعوةٍ كهذه، فالرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، دعا إبّان كان في قصر قرطاج يهود تونس في إسرائيل إلى العودة إلى بلدهم، في أثناء تفقّده أحوال تونسيين يهود. ولعلها مصادفةً (أو مفارقةً) أن كلام المغني العراقي تزامن نشرُه مع إشهار التلفزيون الإسرائيلي إن حكومة الاحتلال أنجزت تقديرا رسميا لـ "الممتلكات اليهودية المفقودة في الدول العربية"، وقيمتها 250 مليار دولار، لتطالب بها، ضمن تعويضاتٍ مطروحٌ أن يدفعها العرب في "صفقة القرن". والقصة بالغة الجدّية، إذ كان الكنيست قد طرح مشروع قانونٍ أعدّته إدارة الأملاك في وزارة الخارجية الإسرائيلية، يطالب 12 دولة عربية (بينها العراق) بهذه الأموال. ولمّا خصّ تقريرٌ إخباريٌّ إسرائيلي، أخيرا، تونس وليبيا، وجاء فيه إن ممتلكات اليهود "العائدين" إلى إسرائيل من البلدين تصل إلى 50 مليار دولار، فذلك يذكّر بردّ سيف الإسلام القذافي في العام 2010، على مطالباتٍ بتعويض بلاده يهودَها الذين غادروها إلى "دولة إسرائيل"، بالقول إن ليبيا مستعدّة لبحث عودة هؤلاء، واستعادتهم جنسيّتها. والمؤكّد أن لا أحد قبض هذا الكلام، البالغ الخيال، على محمل الجد، كما دعوة القيادي في "الإخوان المسلمين"، عصام العريان، قبل أعوام، اليهود المصريين في الدولة العبرية إلى العودة إلى بلدهم، وأيضا كما مقترحُ رجل الأعمال الفلسطيني، طلال أبو غزالة، إنشاء صندوق عالمي لتمويل عودة اليهود إلى أوطانهم الأصلية (!).
لم يكن في مدارك المغني العراقي، سعدون جابر، شيءٌ من مثل هذا الأرشيف المتّصل بأطروحته اللافتة تلك، فقد قال ما قال في معرض التعبير عن انفعاله الشخصي، وهو يتحدّث عن تسجيلاتٍ لأغنياتٍ عراقيةٍ قديمةٍ في حوزة اليهود العراقيين في فلسطين المحتلة. ولكن القصة، في إحالاتها وحواشيها وتفاصيلها، والمعقدة والصعبة على الذاكرة والوجدان، جدّيةٌ وخطيرةٌ، وحديث إسرائيل عن أملاك "يهودها" في البلاد العربية لا يتوقف.. هل من سياسي عربي يجرؤ على الكلام في هذا كله، أقلّه كما فعل سعدون جابر .. وغيرُه.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.