"سابقة" في أميركا
كل شيء في الولايات المتحدة "سابقة" في السنوات الأخيرة، ليس فقط مع بدء عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، بل منذ انتخاب أول أميركي من أصل أفريقي باراك أوباما، في عام 2008، رئيساً لبلادٍ كانت، إلى عقودٍ قليلة، مرتع العبودية، قبل نشوء حركة الحقوق المدنية. قرار عزل كيفن مكارثي عن رئاسة مجلس النواب في الكونغرس لن يكون الأخير على لائحة مليئة بمصطلح "سابقة"، بل سيُمهّد عزلُه لسلسلة جديدة من التوجّهات في الداخل الأميركي. غير أن المسألة الأكثر إلحاحاً هنا تكمن في متانة النظام الأميركي من عدمه في هذه التحوّلات.
حتى إشعارٍ آخر، أظهر هذا النظام قوته، بل تجاوز مطبّات عدة، محافظاً على نفوذ واشنطن في الساحة الدولية، قطباً مهيمناً، رغم محاولات الصين وروسيا. وحتى إشعارٍ آخر، سيبقى النظام قادراً على تخطّي كل المراحل الحالية التي تنتاب جوانب السياسة الأميركية. لا تتجاوز الأمور الاستثنائية القادرة على زعزعة النظام الأميركي أصابع اليد. من هذه الأمور، حربٌ نووية، وهو شيءٌ مستحيلٌ في الوقت القريب. الأمر الثاني، هو كارثة طبيعية، من قبيل ثورة بركان يلوستون في ولاية وايومينغ، وهو أمرٌ ليس وارداً في المدى المنظور. أما الأمر الثالث فمرتبطٌ بالوضع الاقتصادي، وهنا يتمحور كل شيء.
تشهد الولايات المتحدة مأزقاً متنامياً في حجم ديونها، التي تجاوزت الـ33 تريليون دولار، من دون وجود حلولٍ فعليةٍ لمعالجتها. وأضحت الإغلاقات (والتهديد بها) جزءاً من أعمال كل كونغرس في العقد الأخير. تشكّل هذه الديون المساحة التي تعمل بها الإدارة الأميركية الحالية، وأعمال الإدارات المستقبلية. ومع أن واشنطن قادرةٌ على كبح جماح تنامي الديون والسيطرة عليها، غير أن تسارع الإشكالات المتعلقة بالمالية الأميركية تشرّع الأبواب أمام مأزقٍ آت.
من الطبيعي أنه حين يناقش العالم الديون الأميركية، وتشعُر الصين خصوصاً بالخطر، بسبب اعتمادها على كتلة دولارية ضخمة في احتياطيها من النقد الأجنبي، أن يكون الأميركيون يستعدّون لحقبة مالية جديدة، تحديداً النظام الأميركي. قد تكون الخيارات هنا متشعّبة من استثمارات وتمويل في قطاعات متعدّدة، لكن بعض الخيارات قد تكون أيضا مجنونة، وتراوح بين اتخاذ واشنطن قرارات حادّة مرتبطة بالمجتمع الدولي، مثل شنّ حربٍ كبرى أو تحقيق هيمنة استعمارية على دولةٍ غنية، وبين الانعزال في الداخل الأميركي، خصوصاً لأن أميركا مكتفية ذاتياً. وكلا الخيارين مضرّان بالعالم. الجنون الأميركي سيدمّر هيكلية بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، والانعزال الأميركي سيترُك فراغاً واسعاً، لن يملأه طرفٌ متوثّب، بل فوضى عارمة، والفوضى تؤدّي إلى مزيدٍ من الحروب.
مشكلة الأميركيين أنهم حين قرّروا الإبحار شرقي المحيط الأطلسي والانخراط في حروب أوروبا، ثم توغلهم في المحيط الهادئ لردع اليابان في حروب القرن العشرين، صاغوا مفهوماً مالياً مرتكزاً على الدولار، ولا شيء غيره. وبفعل الاضطرارية والعقود الأممية، انغمست كل الدول في تعاملاتها بالدولار، وما تفعله مجموعة "بريكس" لن يكون كافياً في إحياء سلّة عملاتٍ منافسةٍ للدولار، تحديداً في العقود القليلة المقبلة.
هل ستعود الولايات المتحدة إلى الاستقرار بعد هذه الفوضى؟ من الصعب الإجابة على فرضية لم تكتمل أركانها بعد، لكن الأكيد أن الأميركيين اعتادوا الاتّعاظ من كل كبوة مرّوا بها، وصولاً إلى تضمين التغييرات في النظام الحديدي المسيطر في واشنطن، غير أنه في الوقت الذي تعجّ فيه الضوضاء في أروقة العاصمة الأميركية، سيشهد العالم مزيدا من التوترات، سواء لأسباب اعتقاد بعض الدول أن "الوقت حان" للتمرّد على النفوذ الأميركي، أو لأن بعضهم يخشى من عدم الاستقرار الأميركي، ما يجعله يبحث عن خيارات بديلة.
في كل الحالات، تبقى التحوّلات الأميركية ميزاناً لأي خطوة في الساحة الدولية، وفي حال تحوّلت كل "سابقة" إلى نقطة قوة لاحقة للنظام الأميركي، فإن ذلك سيرسّخ نفوذ القطب الواحد عقوداً طويلة.