سؤال محيّر... أين ذهبوا؟

30 يونيو 2024
+ الخط -

الزميل زياد كريشان، رئيس تحرير صحيفة المغرب التونسية، محقُّ عندما تساءل: أين ذهبوا؟ ويعني بهم أولئك الذين "ملأوا الدنيا وشغلوا الناس خلال عشرية الانتقال الديمقراطي" حسب تعبيره. ويضيف "بعضهم شغل مناصب متقدّمة في الدولة، بل المناصب الأولى، وبعضهم أسّسوا أحزابا كانت تطمح للوصول إلى الحكم، والبعض الآخر كان يمنّي النفس بالوصول إلى رئاسة الدولة".

فعلا، تبدو الساحة التونسية وكأنها خالية، بعد أن كانت تعج بالفاعلين والنشطاء والطامحين والراغبين في لعب أدوار البطولة. وقد أثّر غيابهم سلبيا على مختلف القطاعات، وفي مقدّمتها القطاع الإعلامي؛ حيث أصبح الصحفي الجاد يبحث بصعوبة عن حدث هام يكتب عنه حتى يتجنب التكرار الممل.

ظاهرة غريبة، تحتاج فعلا إلى تفسير عميق وموضوعي. إذ لا يعقل أن تختفي نخبة بكاملها تقريبا في ظرف وجيز.

قبل المساهمة في تحليل هذه الظاهرة، علينا تجنب التعميم. هناك من صمد وبقي حتى الآن يعبّر ويطالب ويحتج ويرفع صوته عاليا رغم "المخاطر" والتحديات المختلفة التي يواجهها المعارضون من مختلف الاتجاهات. هذه مسألة لا يجوز التغاضي عنها، حتى يكون فهمنا لما حصل ويحصل قريبا من الموضوعية والتوازن. لقد بقي للمعارضة نبض مستمر، وإنْ بوتيرة منخفضة وضعيفة. هناك العشرات بل المئات الذين رفضوا مغادرة البلاد، وبقوا يتحركون في حدود ما تسمح به الأوضاع الراهنة. كما أن بعض منظمات المجتمع المدني حافظت على استقلاليتها وعلى وحدتها الداخلية، وتمسكت بنبرتها النقدية للسلطة، رغم التضييقات التي تعرضت لها، ورغم الفتور الذي أصابها.

مع ذلك، يبقى الإشكال قائما ومحيّرا. حتى معظم المؤيدين للسلطة شعروا بخطورة السكتة القلبية الفجئية التي أصابت عموم النخبة السياسية والمدنية نتيجة نقص الأوكسجين، وجّهوا رسائل مختلفة إلى رئاسة الجمهورية، "نصحوها" بتعديل السياسة وتخفيف الضغط حتى لا تختنق النخبة وتموت. لكن هذه الأطراف فقدت الكثير من مصداقيّتها، وبقيت رسائلها بدون صدى.

معظم فئات النخبة أصيبت بالخوف. والخوف قاتل أو على الأقل يشل حركة الكثيرين، ويعطل قدراتهم الدفاعية، ويجرّهم نحو الهروب من المواجهة والركون إلى الصمت والاحتجاب. هناك من خاف على وظيفته أو ماله وحريته أو منعه من السفر. وهذا العامل مهم في تفسير ظاهرة الابتعاد عن الأضواء الحارقة.

صحيحٌ هناك مئاتٌ تصدّروا المشهد خلال الفترة السابقة بدوافع مختلفة، فمن شأن الحرّيات أن تشجع المغامرين على اختراق الفضاء السياسي. هناك من رفع عنه الغطاء بعد الثورة، فوجد في حزب نداء تونس ملجأ. وبعد انهيار هذا العملاق الورقي خاف من العاصفة فهجر السياسة مؤقتا في انتظار فرصة أخرى. وهناك رجال أعمال تصوروا أن مناخ الديمقراطية قد يمكنهم من التحكم في شرايين السلطة، فشاركوا في الانتخابات وموّلوا الأحزاب والصحف، وعندما انقلبت الأوضاع والأدوار وجدوا أنفسهم في صراعات لم يقرأوا لها حسابا. وهناك إعلاميون جعلوا من أنفسهم وقوداً، وخاضوا حروبا بالنيابة حتى سقط البناء، فوجدوا أنفسهم يعانون من ضيق التنفس. أما الأحزاب فأخطاؤها لا تُحصى ولا تعدّ، فقد أساءت تقدير قوتها وتصارعت من أجل فتات، وتآكلت في داخلها بسبب الرغبة في الانفراد بالنفوذ والمجد، وفتحت أبوابها ونوافذها لمن هب ودب على حساب مناضليها. والأمثلة عديدة تشير في مجملها إلى مسؤولية الجميع عن تردّي الأوضاع وانسداد الأفق. فليس كل من انخرط في تجربة الانتقال الديمقراطي مؤمناً فعلا بالديمقراطية ومستعدا للدفاع عنها، كلفه ذلك ما كلفه. والدليل هروبه من تحمّل المسؤولية، وعدم تحمله مسؤولية المشاركة في تخريب التجربة الواعدة التي توفرت للبلاد.

المهم اليوم ليس البحث عن الذين اختفوا من المشهد، وإنما الأولى أولئك الذين صمدوا، أو الذين سيقتحمون الفضاء العام اعتقادا بأهمية الانتقال الديمقراطي. ويرون في ذلك واجبا وطنيا وخدمة لتونس التعدّدية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. هذا الصنف من التونسيين لم ينقرضوا ولم يستسلموا. ولم تتسرّب إلى عقولهم مقولة خبيثة وملغمة عنوانها "العشرية السوداء".

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس