سؤال التنظيم الذاتي للصحافة في المغرب
هيمن على الساحة الإعلامية أخيرا نقاشٌ شكليٌّ بشأن مآل أول تجربة تنظيم ذاتي لقطاع الصحافة في المغرب، بعد نهاية أول ولاية لمجلس الصحافة، وهو مؤسّسة رسمية أنشئت بموجب دستور 2011 بهدف إلغاء الوصاية الحكومية على الإعلام، بدأت أول تجربة لها عام 2018، ويفترض فيها أنها منتخَبة من المهنيين، ومستقلّة عن الحكومة وعن كل المؤسّسات الأخرى، مهمتها التنظيم الذاتي لقطاع الإعلام والصحافة في المغرب. وكان يُفترض أن تنتهي الولاية الأولى لهذا المجلس في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وبدل تنظيم انتخاباتٍ جديدة كما هو منصوصٌ عليه في نظامه الأساسي، اختارت السلطات تمديد ولايته ستة أشهر أخرى لإتاحة الفرصة لتنظيم انتخابات تجديد هياكله. ولكنها عادت، بعد مرور فترة التمديد، واقترحت تنصيب "لجنة مؤقّتة" تدير مهامّه سنتين إلى حين تنظيم انتخابات جديدة، وقد صادق البرلمان المغربي، يوم 19 يونيو/ حزيران الجاري على قانون تنصيب هذه اللجنة المثيرة للجدل.
أما النقاش الشكلي الذي شغل أصحاب مهنة المتاعب في المغرب طوال الفترة الماضية فقد انصبّ، في مجمله، حول قضية التمديد للمجلس الحالي وتنصيب اللجنة المؤقّتة لتسيير شؤونه، وقد أدّى هذا النقاش إلى بروز اصطفاف داخل الجسم الصحافي بين مؤيدين لتمديد عمر المجلس الحالي وإطالة ولاية من يسهرون اليوم على تسييره، خصوصا وأن اللجنة المؤقّتة المقترحة تحتفظ بين أعضائها بقيادة المجلس الحالي المنتهية ولايته لتسيير شؤونه سنتين مقبلتين، وبين من يعتبرون تنصيب هذه اللجنة "بدعة" وخروجا عن "المنهجية الديمقراطية"، ويرون فيها تدخّلا سافرا للحكومة والبرلمان في تسيير شؤون مؤسّسةٍ يُفترض أنها مستقلةٌ أنشئت أساسا لتتيح للصحفيين تنظيم مهنتهم بأنفسهم، بعيدا عن كل تدخّل من خارج القطاع.
من سيقود المرحلة المقبلة هم الأشخاص أنفسهم الذين فشلوا أربع سنوات ونصف السنة الماضية في إنجاز المهام نفسها
ومع المصادقة على قانون تنصيب اللجنة المؤقتة يكون البرلمان، والحكومة، لأنها هي من اقترحت القانون، قد وضعا حدّا لهذا النقاش بانتصارها للمدافعين عن حالة "الستاتيكو"، أي المحافظة على الوضع كما هو سنتين إضافيتين، خصوصا وأن من سيقود المرحلة المقبلة هم الأشخاص أنفسهم الذين فشلوا أربع سنوات ونصف السنة الماضية في إنجاز المهام نفسها التي تدخل في صميم عمل المجلس، وأوكلها القانون الجديد إلى "اللجنة المؤقّتة"، وفي مقدمتها تنظيم انتخابات "ديمقراطية" لتجديد هياكل المجلس بعد نهاية فترة التمديد. وهذا ما يدفع إلى وصف النقاش الذي هيمن طوال الفترة الماضية بأنه هامشي تحكّمت فيها الأهواء والطموحات الشخصية، حتى لا نقول المصالح الشخصية، لمن كانوا يذكونه حتى فرضوه موضوعا مهيمنا على الساحة الإعلامية، انصرف إلى نقاش المساطر والإجراءات وابتعد كثيرا عن الجوهر والخلفيات والواقع.
أما الجوهر فيكمن في الإقرار بفشل أول تجربة للتنظيم الذاتي لقطاع الإعلام في المغرب، وبدلا من الانتهاء معها أو على الأقل نقدها، جرى تمديدها سنتين، أي الإطالة في عمر تجربة فاشلة سنتين إضافيتين، وربما أكثر ليستمرّ الفشل نفسه في المهام المنوطة بالمجلس، والتي لم يتسع النقاش الذي هيمن لملامستها، والمتمثلة في صيانة المبادئ التي يقوم عليها شرف المهنة، والتقيّد بميثاق أخلاقيات المهنة والقوانين والأنظمة المتعلقة بممارستها، والسهر على ضمان وحماية حق المواطن في إعلام متعدّد وحرّ وصادق ومسؤول ومهني. فأي من هذه المبادئ والمواثيق الأنظمة الأساسية غير محترمة اليوم داخل ساحة إعلامية تعجّ بمئات العناوين التي لا تحترم أدنى مبادئ المهنة أو مواثيق أخلاقها، وهي رغم تنوّعها وتعدادها تكرّر الرواية والسردية الرسمية للسلطة أو "السلطات" المتحكّمة داخل المغرب.
لا تريد السلطة في المغرب وجود صحافة أو صحافيين مستقلين
الخلفيات التي حرّكت هذا النقاش كثيرة، ونقف هنا عند خلفيتين رئيستين تلتقيان في الأهداف والغايات: الأولى غير المعبّر عنها صراحة والمتمثلة في رغبة السلطة المتحكّمة في القطاع في الاستمرار بوضع يدها عليه وضبطه بما يتماشى مع تخطيطها الهادف إلى القضاء على روح الاستقلالية داخل قطاع الإعلام، وتحويله إلى قطاع تابع لها وخاضع لتوجهاتها وواقع تحت مراقبتها وسلطة ضبطها وتحكمها. والخلفية الثانية هي تلك التي نجدها عند الذين تستهويهم الكراسي والمواقع، فهم الذين كانوا يحركون النقاش لأهداف وطموحات شخصية، بعيدا عن كل الشعارات التي كانوا يرفعونها دفاعا عن شرف المهنة وأخلاقها ومبادئها، وأغلبهم لا يحترمونها في ممارستهم اليومية، ويتعايشون داخل هيئاتهم ومجالسهم وجمعياتهم مع من يدوسون على المبادئ والأخلاق نفسها يوميا في منشوراتهم غير المهنية.
أما الواقع الذي لا يرتفع فلا علاقة له بكل ما سبق، وهو ما تعكسه تقارير منظمات حقوقية محترمة داخل المغرب وخارجه، يشهد على أن السلطة في المغرب لا تريد وجود صحافة أو صحافيين مستقلين يشتغلون داخل قطاعٍ يخضع للمراقبة والتحكّم والضبط. والوجه المأساوي من هذا الواقع هو استمرار وجود ثلاثة من أبرز الصحافيين المستقلّين مغيبين وراء القضبان بسبب كتاباتهم وآرائهم المستقلة، واستمرار اعتقال المدوّنين الخارجين عن سلطات الرقابة والضبط، واستمرار القتل اليومي لكل فكرٍ مستقلٍّ يغرّد خارج السرب. لذلك، فإن النقاش حول تجديد أو تمديد أو حتى إلغاء مجلس ينظّم مهنة الصحافة، لأن التجربة السابقة أثبتت أن وجوده مثل عدمه، هو مجرّد نقاش في تجديد شروط رقابة طوعية ومؤدّى عنها يتهافت عليها صحافيون لتحسين أوضاعهم المادية ومراكزهم الاجتماعية، حتى لو حدث ذلك على حساب حرّيات زملائهم أو حرمان مواطنيهم من حقّهم في إعلام تعدّدي ومستقلّ، قادر عن أن يشكل سلطة مضادّة ترفض كل أنواع الوصاية وقوانين الضبط وسلطات التحكّم.