سؤال "الانسحاب الأميركي" من العراق

31 يناير 2024

عراقيون يطالبون بخروج القوات الأميركية من البلادفي بغداد (24/1/20024/الأناضول)

+ الخط -

يكرّر مفردة "الانسحاب" هذه الأيام الساسة العراقيون من دون إعطائهم معنى واضحاً ودقيقاً لها، وربما تعمّد مطلقوها إضفاء نوع من الغموض المقصود على دلالتها، وبلغة أهل السياسة، نوع من "الغموض البنّاء"، أي الذي يُخفي أكثر مما يعلن، أما رجال وزارة الدفاع (البنتاغون)، وهم المعنّيون بالموضوع أكثر من غيرهم، فقد قالوها صريحة واضحة، "لا" كبيرة، وأكّد بعضهم أن لجنة الحوار بين واشنطن وبغداد لا تناقش أكثر من تغيير صيغة "التحالف" إلى صيغة "شراكة ثنائية بين بغداد وواشنطن، سياسية وأمنية وعسكرية"، وإن جلساتها قد تستمرّ أشهراً. وحتى سنوات، نتذكّر هنا أن اللجنة التي تشكّلت في عهد وزارة عادل عبد المهدي عام 2020 اجتمعت مرّة واحدة. وعن صيغة "الشراكة الثنائية"، يقول بعض "الخبثاء" إنها سوف تدوم إلى الأبد، فيما يبشّر رئيس الحكومة، محمد شيّاع السوداني، مواطنيه بأنها ستتحوّل إلى نموذج يعتمده العراق في تعامله مع بريطانيا وألمانيا ودول "التحالف" الأخرى!

هكذا يبدو الأمر معقّداً، خصوصاً بعد ما نشر عن طلب "البنتاغون" زيادة كلفة تعزيز الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط ب 1.6 مليار دولار. وإذا ما أقرّ الكونغرس هذه الزيادة سيتم إرسال دفعة إضافية من الجنود "لضبط الأمور في العراق وسورية، وردع طهران"، وأيضاً بعد تسمية سفيرة "مهمّات خاصة" في بغداد، الدبلوماسية المتمرّسة تريسي آن جاكوبسون التي جمعت المجد من أطرافه، فهي نائبة الرئيس التنفيذي لمجلس الأمن القومي، وسابقاً مساعدة وزير الخارجية لشؤون المنظمّات الدولية، وعندها تجربتها سفيرة في أكثر من بلد عانى من الإرهاب والتطرّف، وقد أعطيت لقب "السفير فوق العادة"، وبصلاحيات واسعة تتيح لها عقد اتفاقات وتفاهمات باسم بلدها.

الخطوتان تعنيان أن الولايات المتحدة ليست في وارد الانسحاب من العراق، ولا من الشرق الأوسط الذي يعني الكثير للأمن القومي الأميركي، إذ فيه تعلق مسألتان مهمّتان، إسرائيل والنفط، ولا خلاف على ذلك بين الجمهوريين والديموقراطيين. كما أن وجود العسكر الأميركيين على مسافة صفر من إيران يتيح للولايات المتحدة وضعاً أفضل في التحكّم في المنطقة، والعمل من هناك على تقليم أظافر إيران، وخنقها اقتصادياً، ومنعها من الحصول على موارد قد تستخدمها في نشاطاتها النووية، وكذلك تحجيم دورها بالقدر الذي لا يجعل منها لاعباً إقليمياً فاعلاً.

تعكس مسألة الدعوة إلى إنهاء الوجود الأميركي انقسامات حادّة، ومماحكات بين مختلف الأطراف السياسية في العراق

عند هذه النقطة، دعونا نقلب الوقائع رأساً على عقب، كي نصل إلى العقدة، كما يقول موليير، ونسأل عمّ تريده إيران من توغّلها في العراق، وهيمنتها على قراره؟ الجواب أن ايران وسط عالم عربي معاق، ومعطّل، وعاجز عن الفعل، وصراع جيوسياسي معقّد في المنطقة والعالم، تجد الفرصة سانحة أمامها للعب دور أكبر، وأكثر فاعلية، إن بالسياسة وإن بالسلاح، وهي تعتبر بغداد جزءاً من مجالها الحيوي، وهو أمرٌ لم تعُد تتردّد في الإفصاح عنه، كما تعمل على أن تجعل صراعها مع الولايات المتحدة قائماً على أرض العراق وليس على أرضها، خصوصاً بعد أن توفرت لها، وبفعل أميركا نفسها، فرصة سانحة لفرض هيمنتها على قراره، وأسّست مليشيات تابعة لها فيه، تحرّكها كيفما تشاء، وتدفع بها إلى التصدّي للأميركيين، وضرب قواعدهم، وقد أتقنت اللعبة مستندةً إلى فائض القوّة الذي تحقق لها.

وإذ يفتقد العراقيون الإرادة الوطنية الخالصة، والإجماع الشعبي الشامل لصنع حالةٍ توفّر لهم ما يأملونه من حرية واستقلال وحياة كريمة كان لا بد أن تعكس مسألة الدعوة إلى إنهاء الوجود الأميركي انقسامات حادّة، ومماحكات بين مختلف الأطراف السياسية، حيث عبّر القادة الكرد عن تحفّظهم على الانسحاب باعتبار الوجود الأميركي حامياً لهم، كما أن شيوخ عشائر وشخصيات ناشطة في غرب البلاد تتحفّظ، هي الأخرى، على الانسحاب، لخشيتها، في حال حدوثه، من سيطرة الأطراف الموالية لإيران التي يميل بعضُها إلى تطبيق صيغة في إدارة الدولة قريبة من مشروع ولاية الفقيه، ولذلك تلوّح تلك الشخصيات بطرح مطلب تأسيس "الإقليم العربي" الذي يفترض أن يضم المناطق السنية، أما القوى "الشيعية" الحاكمة فهي تعاني، هي الأخرى، من انقسام، ويحذّر بعضها من عقوباتٍ أميركية قد تعصف بالاقتصاد العراقي في حال حدوث الانسحاب.

وقد يواجه العراق، وسط هذه الصورة، جملة تطوّرات تضعه أمام احتمالاتٍ صعبةٍ ما لم يظهر مشروع وطني خالص يعيد إلى العراق مكانته بين الدول، ويضمن للعراقيين حقوقهم في الحرية والحياة، لكن المؤسف أن لا مؤشّرات توحي بذلك في المدى المنظور.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"