19 نوفمبر 2024
زوبعة "ذي إيكونوميست"
لم تزد مجلة "ذي إيكونوميست" في الطنبور وتراً لمّا كتبت، أخيراً، إن عبد الفتاح السيسي جاء إلى رئاسة مصر بانقلاب، ولم تشحط الذئب من ذيله، لمّا كتبت إن الرئيس المذكور في عدم كفاءته، وفي ممارسته القمع العنيف، يخرّب مصر. ولم تجترح الشهرية البريطانية، الموصوفة بالموثوقية عالمياً، كشفاً باهراً في إشارتها إلى تفوّق السيسي على حسني مبارك في القمع، وعلى محمد مرسي في نقصان الكفاءة. كل هذا وغيره معلوم، وكتبه وقاله عديدون في منابر ووسائط إعلامية وفيرة. ولكنها عقدة الخواجة، معطوفةً على اعتناق السلطة الحاكمة في مصر، ومثيلاتٍ عربيةٍ لها، قناعةً بأن حكي الأجانب، أياً كان وأياً كانوا، أمضى وأوْقع، وأن في الوسع "التعامل" مع ثرثراتٍ هنا وهناك، غير أن "إيكونوميست"، ونظيراتٍ لها في أميركا وأوروبا، قصة أخرى. وليس منسياً ذلك الذعر الذي أربك طاقم عبد الفتاح السيسي، لمّا كتبت "نيويورك تايمز"، في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، إن انتخاباتٍ مزوّرة جاءت بالسيسي رئيساً، وإن ما جرى في "3 يوليو" انقلابٌ عسكري، وإن وصف "الإخوان المسلمين" جماعةً إرهابية غير منصف.
كان الظن أن جِِلد السلطة في مصر صار سميكاً وبليداً، إذ لم تكترث كثيراً بافتتاحيةٍ تالية للصحيفة الأميركية نفسها (توصف بأنها الأكثر تأثيراً في العالم)، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، أوردت أن الاعتقال التعسفي للمدنيين في مصر روتيني، وطالبت إدارة باراك أوباما بتصرّف آخر مع النظام في مصر، إذ يتمادى في هذا الأمر. جاءت واقعة "ذي إيكونوميست"، الشهر الجاري، تؤكد خطأ هذا الظن، لأن الزفّة الإعلامية التي نشطت في مصر، وأُريد منها الردّ على "مزاعم" المجلة، كانت كبيرةً، وانخرط مشاركون فيها بمعزوفة نصائح عمّا يجب أن تُبادر إليه الحكومة من إيضاح "الحقائق" وشرح "المنجزات". وتشاطَر بعضٌ من هؤلاء في القول إن لا جديدَ أوردته المجلة الاقتصادية، سوى "التسييس" فيه. وكانت الخارجية المصرية قد عمدت إلى اتهام الدورية الشهيرة بذلك، في بيانٍ أخفق التذاكي الظاهر فيه في غرضه، عندما توهّم أن الكلام الكبير عن السطحية وعدم الموضوعية سيجعل قرّاء "ذي إيكونوميست" لا يصدّقون أن تردّياً اقتصادياً مريعاً تعرفه مصر، وأن نظام السيسي هو المسؤول عنه، وأن اتساع شكاوى المصريين من ارتفاع الأسعار والتناقص الكبير في قيمة الجنيه إنما هو دلع مواطنين يرفلون بنعيمٍ يحلم به السويسريون.
لعلهما مسألتان أشعلتا هذا الغضب الحكومي في مصر من المجلة البريطانية، لم نُصادف مثله تجاه تصعيد "واشنطن بوست" انتقاداتها، قبل عام، ضد الاختفاء القسري والقمع العنيف في مصر، هما أن هذه المجلة هي التي سبقت ثورة 25 يناير 2011 بأسابيع فقط في تصوير حسني مبارك غارقاً في الرمل، وتنبأت بثورةٍ عليه، عندما استعرضت أحوال مصر المتهالكة في حينه. وإذ تصوّر، هذه المرة، عبد الفتاح السيسي على جملٍ يتفرّج على تخريب مصر، فذلك فألُ نحسٍ يبعث على التطيّر والفزع. ثاني المسألتين أن المجلة ترى (أو تنصح؟) أن على السيسي ألا يترشح ثانية للرئاسة في عام 2018. وفي هذا الأمر، تقترف أمراً مهولاً، ولا تحتمله أعصاب الحاكمين في القاهرة.
وأن يتزامن نشر "ذي إيكونوميست" عن بؤس الأوضاع الاقتصادية في مصر، وحدّة القمع السياسي، وقلة كفاءة السيسي (وهو الرئيس الضرورة!)، مع إقراض صندوق النقد الدولي مصر 12 مليار دولار، بشروطٍ لم يجرؤ على الموافقة عليها (أو على بعضها) عصام شرف وكمال الجنزوري وهشام قنديل (رؤساء وزراء بعد "يناير")، فذلك يعني أن فشل الحكم اقتصادياً ومعيشياً وتنموياً مهول، من مظاهره، أخيراً، أن تقترض قناة السويس من أجل سداد التزاماتٍ عليها. وعندما تكتب المجلة الذائعة الصيت إن السيسي، بالقمع وبعدم كفاءته، إنما يتسبّب بثورةٍ محتملةٍ في البلاد، فإن أسباب هذه الثورة أكثر من أن تُحصى، لكن قوانين التاريخ ليست كما قوانين الميكانيكا. ولكن، إلى متى يبقى جنون الأسعار محتملاً، وإلى متى ستُسعف مصر سياسةُ ما لا يُحَلّ بالاقتراض يُحّلّ بمزيدٍ منه؟