زحمة يا دنيا

13 أكتوبر 2022

(محمد عبلة)

+ الخط -

ربما لأنني لا أسوق سيارتي بنفسي، وأستعين، بدلا من ذلك، بغيري، فأنا لستُ من المتذمّرين اليوميين من زحمة الشوارع. لكني لا أجرؤ على اعتبارها وضعا إيجابيا أو نعمةً كما قالها أحد مسؤولي المرور في الكويت قبل سنوات، فووجه بغضبٍ جماهيريٍّ عارم، ليس فقط لأنني أخاف من ذلك الغضب العارم وحسب، ولكن أيضا لأنني مؤمنةٌ بأن ما يناسبني وأستطيع أن أحوله لنعمة حقيقية قد لا يناسب غيري، بل لعل تصرّفي تجاهه يبدو استخفافا بالمشكلة، وهي حقيقية وكبيرة فعلا.

قبل أيام، بدأت في الكويت السنة الدراسية فازدحمت كالعادة الشوارع بالسيارات صباحا وظهرا، وبدأت الشكاوى من هذا الزحام اليومي تملأ البيوت والمجالس والمدارس ومكاتب العمل ووسائل التواصل الاجتماعي أيضا، حتى أصبحت هي المشكلة الأولى، وطغت أحيانا على الأجواء السياسية الساخنة عقب الانتهاء من انتخابات مجلس الأمة، وقبيل تشكيل الحكومة الجديدة.

يشكو الجميع من الزحمة، ويلقي كثيرون المسؤولية على الحكومات المتعاقبة التي لم تستطع أن تجد حلا لها، رغم أن شوارع الكويت من أوسع شوارع العالم وأكثرها نسبيا. ولكن السيارات أيضا كثيرة جدا، ففي العام الماضي وحده (2021)، وصلت مبيعات السيارات في البلاد إلى أكثر من 108 آلاف سيارة.. هذا في عام فقط، فما بالك بأعداد السيارات الموجودة قبله وبعده؟ وإذا عرفنا أن عدد سكان الكويت من مواطنين ومقيمين أزيد من أربعة ملايين بقليل، يتبيّن لنا حجم المشكلة التي يعيشها الجميع صباحا ومساء. ففي الكويت، يفضّل كثيرون استخدام سياراتهم الخاصة في قضاء مشاويرهم اليومية في ظل انعدام ثقافة استخدام المواصلات الجماعية حتى لطلاب المدارس والجامعات.

ورغم أن المشكلة قديمة، وأن خططا كثيرة وضعت لحلها ونفذ بعضها فعلا، إلا أن الشكوى ما زالت تملأ الآفاق، رغم أنني أنظر لها ببساطة شديدة باعتبارها فسحة للمراجعة بسيطة في وسط اللهاث اليومي الذي يكاد لا يتوقف. صحيحٌ أن أعمالا ومهنا كثيرةً لا تحتمل هذا الترف في تفسير الأمور وتبسيطها كما أفعل، كلما رفعت رأسي عن جهاز الأيباد أو الكتاب الذي أحمله لأقرأ فيها كتابا واكتشفت الزحمة حولي، إلا أنها أيضا ليست بذلك التعقيد الذي يفسد اليوم كله، ويصبح سببا لمزاج متعكر طوال النهار.

مزيد من الخطط مطلوب، ودراسة العوامل التي تؤدّي إلى هذا النوع من الزحام المتراكم سنويا، مطلوب أيضا، وتعاون السائقين في الشارع ليمضي نهار جديد بسلام من مستلزمات الحياة الصباحية في نهاراتنا المحتشدة بالمشكلات، لكن أيضا علينا ألا نحيل مثل هذه الظروف إلى شمّاعة للتأخر عن أداء مهامنا الحياتية، فالوقت متسع لمن يريد أن يجعله كذلك، وهو ضيق جدا لمن يحاول الاعتذار بضيقه عن التخلف في مشوار العمل وغيرها من المشاوير والمهمات، وفي كل الحالات .. لا يجب أبدا أن نحوّل أي مشكلة عامة ويمكن تجاوزها بقليل من الصعوبات إلى مشكلة خاصة تعيقنا عن أداء واجباتنا أو تعكّر صفو أيامنا.

الزحمة في الشارع مشكلة موجودة وحقيقية ويومية، ولكن حلولها الرسمية والشاملة أيضا موجودة. وإلى أن تحلّ فعلا، يمكننا البحث عن حلولٍ فرديةٍ تساهم على الأقل في التخفيف من آثارها، ما دمنا قد ارتضينا أن نكون جزءا من هذه الشوارع التي تؤدي بنا إلى حيث نشاء يوميا، فزحمة الشوارع في معظم بلدان العالم، حتى التي لا يملك فيها المواطنون ترف امتلاك السيارات كما هو الحال في بلادنا، ليست سوى صورة مصغّرة عن زحمة الدنيا في هذه الكرة الأرضية التي يتكاثر فيها البشر، ويواجهون فيها الأسئلة الجمعية الصعبة بمزيد من التجهّم والشكوى.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.