ريجيني .. "العربي" يحقّق أيضاً
واحدةٌ من رسائل مُضمرة يبعثها التحقيق التلفزيوني من برنامج "شيفرة"، على شاشة تلفزيون العربي، عن قضية مقتل الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، في القاهرة عام 2016، أن في الوسع إنجاز عملٍ مهنيٍّ متقن، مضادّ للزيف المريع الذي تصنعه مسلسلات الدراما التلفزيونية التي تنشط في إنتاجها المخابرات المصرية، ليشاهد فيها الجمهور العام طهرانيةً مفرطةً وحرفيةً في أداء العمل الأمني والاستخباري الذي تباشره المؤسسات المصرية المختصّة، كما في عدة مسلسلاتٍ يشاهدها الجمهور العريض في موسم رمضان الجاري ("هجمة مرتدّة" و"القاهرة كابول" و"الاختيار2"، وغيرها). لم يكن هذا الأمر من مشاغل الزملاء في تلفزيون العربي، وهم يعكفون على إعداد هذا التحقيق رفيع المستوى، وثمين القيمة تلفزيونيا وصحافيا، لكن مصادفة تزامن بث "الحقائق المدفونة" في برنامج "شيفرة"، الأسبوع الماضي مع بثّ هذه المسلسلات في رمضان الجاري سوّغت الإتيان هنا على هذه الحاشية.
أما في المتن والجوهري، بصدد منجز الزميل عبد المنعم محمود، تحقيقا وإشرافا عاما، مع فريق البحث، وكاتب النص عمر محمود، فهو في الكشف الجديد، في متاهة قضية ريجيني، وموجزُه احتجاز هذا الشاب في مقرٍّ للمخابرات الحربية المصرية في ضاحية نصر في القاهرة، يومي 28 و29 يناير/ كانون الثاني 2016، أي في أثناء "اختفائه" المعلن عنه يوم 25 من الشهر نفسه، وقبل نحو خمسة أيام من العثور على جثته على الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية. والأساسي هنا أن التحقيق التلفزيوني، بعد استعراضه الموثّق مسار القضية، منذ العثور على الجثة، ثم تكشّف خيوط ما تعرّض له الضحية من تعذيبٍ شنيعٍ في مقرٍّ لجهاز الأمن الوطني في حي لاظوغلي في القاهرة، وبعد تقديمه متابعةً مدقّقة لتفاصيل تحقيقات النيابة العامة الإيطالية، وبوثائق بلغتها الأصلية، بعضها يتم عرضه أول مرة، وبعد إتيانه على الكيفيات التي أرادت بها الأجهزة المصرية تمييع القضية، وأخذها إلى غير وجهة، لإبعاد الطليان والرأي العام عن الحقيقة المعلومة لدى هذه الأجهزة، وبعد تظهير التدليس في هذا، وفداحة جريمة قتل خمسة مصريين، بزعم إنهم أفراد عصابةٍ قتلوا ريجيني، .. بعد تقديم تحقيق "شيفرة" الاستقصائي هذا كله، يعرض شاهدان روايتَيهما عن مشاهدتهما الضحية، وهو يتعرّض للتعذيب والاستجواب العنيفين في مقر المخابرات الحربية.
لا تثمّن هذه السطور كفاءة التحقيق التلفزيوني "الحقائق المدفونة"، من باب الكلام المسترسل كيفما اتفق، وإنما يأخذ هذا التقريظ، في مضامينه ومشتملاته، حرص هذا العمل على أن تتوالى مقاطع مرويّته، وقد تسلّح كل منها بالأسانيد المصوّرة، ومن مختلف المصادر، بما فيها مصادر الأجهزة المصرية كما في تصريحات منسوبة لها، وأيضا مما رمته في صحافاتها من أخبار وسيناريوهات وقصص عن جوليو ريجيني. والراجح أنه ليس مأذونا لأي صوتٍ حكومي، أو من حواشي الموالين للسلطة، أن يقولوا في هذه القضية ما يعرفون أو ما يرجّحون أو ما يدافعون به عن الروايات الرسمية المرتبكة، والتي انتقلت من حكايةٍ إلى أخرى، للتملّص من ورطةٍ كبرى، بالنظر إلى جسامة ما وجدت الدولة المصرية نفسَها فيه، بعد انفضاح جريمة تعذيبٍ قاتلة بالغة الفظاعة، يزيدها فداحةً أنها لم تكن لتبلُغ المدى الذي صارت عليه، إعلاميا وحقوقيا، لو أن الشاب غير أوروبي، بدليل أن قتل خمسة مصريين أبرياء مرّ من دون أن يتوقف عنده أي جهدٍ صحافي وازن، أو عملٍ حقوقي مطلوب.
وإلى الإيقاع الشائق في تتابع الصور التي ترافقت مع نصٍّ شديد الكثافة والدقة، في "شيفرة" جوليو ريجيني، ثمّة أيضا الأثر الخاص الذي أحدثه هذا العمل التلفزيوني، عندما يسّر للطرف الباحث عن الحقيقة، ويتولّى الدفاع عن حقوق المجني عليه، مادةً جديدة تسند قرائنه في تعيين المسؤولية الظاهرة، أو أقلّه المرجّحة، على أفراد معروفين في جهاز الأمن الوطني المصري (اتهمت النيابة العامة الإيطالية رسميا ضباطا محدّدي الأسماء)، ثم في المخابرات الحربية، عن تعذيب ريجيني ثم قتله، ثم رميه. وإذا كان هذا أمرا يخصّ الجانب الجنائي في مسار القضية وملابساتها، فإنه على المستوى الإعلامي الصرف يُحسب نجاحا مقدّرا لجهد تلفزيوني، لم يجنح إلى غير البحث عن الحقيقة، ولم يسلك سوى أعراف الصحافة ومواضعاتها، المهنية المحضة، على غير الذي نقرأ ونسمع في الإعلام المصري المقيم في ركاكته الرثّة، وأيضا على غير الذي تُسلّي بها المخابرات المصرية الجمهور في مسلسلاتٍ مصنوعة، في الشهر الفضيل.