رسائل شي جين بينغ من باريس

20 مايو 2024

الرئيس الصيني شي جين بينغ حاملاً مظلّة في جبال البيرينيه في فرنسا (7/5/2024/فرانس برس)

+ الخط -

أدّى الرئيس الصيني، شي جين بينغ، مطلع الشهر الجاري، زيارة رسمية إلى فرنسا، بعد سنوات من الغياب، فآخر رحلة له نحو بلدان القارّة العجوز كانت عام 2019. تتزامن هذه الزيارة مع ذكرى مرور 60 عاما على بدء العلاقات الدبلوماسية الفرنسية الصينية، حيث شكَّل اعتراف الجنرال شارل ديغول بجمهورية الصين الشعبية، عام 1964، لحظة راسخة في ذاكرة الصينيين.
تغيّرت أشياء كثيرة ما بين الأمس واليوم، فالاعتراف الفرنسي آنذاك كان من قوة دولية كبرى، ساهمت في تشكيل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدولة مزقتها سنوات الحرب الأهلية (1927-1949) والمجاعة (1959-1961). فيما تأتي هذه الزيارة، من رئيس ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، لمنح فرنسا الحضور، وحتى بعضا من "التأثير"، في عالم جديد ينقسم إلى مراكز قوى جديدة.
وقد حملت جولة الزعيم الصيني إلى أكثر من دولة أوروبية، مع اختياره باريس وجهة أولى، رسائل مشفّرة إلى أكثر من جهة داخل أوروبا وخارجها. كما أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سعى، في استقبال الضيف الكبير، إلى استعادة أمجاد فرنسا ديغول وميتيران وشيراك. تتباين الحسابات وتتفاوت الغايات، إذن، تبعا لاختلاف منظور الطرفين إلى الزيارة، وذلك ما لم تستطع ابتسامات القائدين حجبه. وفي عودة الزعيم شي جين بينغ إلى أوروبا، وتحديدا من البوابة فرنسا، رمزية كبيرة بالنسبة لها، فالأمر أشبه باعتراف صيني بحلول باريس محلّ برلين، في مخاطبة بكين الاتحاد الأوروبي. هكذا، يرى ماكرون نفسه أحقّ من غيره بزعامة النادي الأوروبي، وحتى لعِب دور الوسيط الطبيعي بين الصين وبقية مراكز النفوذ في القارّة، بعد اعتزال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

ينظر الزعيم الفرنسي إلى الزيارة فرصة مثالية لتحقيق "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي" الذي طالما روّجه

فعليا، شرع الرئيس الفرنسي في الحديث نيابة عن الأوروبيين، حتى قبل وصول القائد الصيني، حين اعترف، في مقابلة صحافية، بعدم وجود إجماع لدى الأوروبيين بشأن الاستراتيجية اللازم اتباعها حيال بكين، معتبرا أن "أطرافاً لا يزالون يرون الصين سوقا للبيع"، في حين أنها "تقوم بالتصدير بشكل هائل نحو أوروبا"، ما حدا به إلى مطالبة الأشقاء الأوروبيين بالسعي نحو حماية أفضل للأمن القومي، داعيا إلى "التمتّع بواقعية أكبر في الدفاع عن مصالحنا". ومن شأن هذه المساعي تعزيز مكانة فرنسا على الصعيد الدولي، فباريس بهذه التحرّكات تبدو طرفا فاعلا في النظام الدولي، سميا مع احتدام الحرب في أوكرانيا، وتنامي المخاوف من عودة ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة. لذلك يسعى ماكرون إلى لعب دور قوة التوازن مع الصين، فقد قال في لقائه مع شي جين بينغ، بحضور رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، إن "مستقبل قارّتنا سيعتمد بوضوح على قدرتنا على مواصلة تطوير علاقاتنا مع الصين بطريقة متوازنة".
ينظر الزعيم الفرنسي إلى الزيارة فرصة مثالية لتحقيق "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي" الذي طالما روّجه، حتى تخرج أوروبا من تحت العباءة الأميركية، ما يجعلها باستمرار صدى لمواقف واشنطن. ولذلك تفادى الرجل إثارة الأزمة التايوانية في أجندة الضيف باعتبارها أولوية، رغم ما تمثل من مركزية في الخلاف الصيني الأميركي، كما تحفّظ على التطرّق إلى موضوع قضية أقلية الإيغور في الصين، مبرّرا ذلك بأن باريس لا تؤمن بسياسة مكبّر الصوت التي غالبا ما تأتي بنتائج عكسية.

الأعضاء في النادي الأوروبي لم يكونوا يوما على قلب رجل واحد تجاه بكين التي اعتمدت مبدأ "فرّق تسد" ركيزة في استراتيجيتها

تنظر الصين إلى هذه الجولة فرصة لتطويق الاتجاهات المناوئة لها، في أكثر من دولة أوروبية، مع اتساع نطاق سردية الدعم الصيني لروسيا ضد أوكرانيا. واختيار باريس وجهة أولى رسالة مباشرة إلى هؤلاء، وغير مباشرة إلى واشنطن، بإظهار مدى الاحترام الذي تحظى به بكين حتى من أقرب حلفاء الولايات المتحدة، ما يعني مزيدا من إضعاف الرابطة الأطلسية، وحثّاً على فكرة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي.
مغادرة فرنسا نحو صربيا ثم المجر رسالة قوية إلى أصدقاء أوكرانيا، مفادها بأن لدى الصين حلفاء في أوروبا، فالأعضاء في النادي الأوروبي لم يكونوا يوما على قلب رجل واحد تجاه بكين التي اعتمدت مبدأ "فرّق تسد" ركيزة في استراتيجيتها. ما حوّل دولا مثل المجر إلى حصان طروادة بالنسبة للصين داخل الاتحاد، حيث عمدت، أكثر من مرّة، إلى عرقلة بيانات أوروبية بشأن الوضع في هونغ كونغ.
لاستبعاد بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، من برنامج جولة الرئيس الصيني في القارّة العجوز دلالة، فهو تعبير عن امتعاض بكين من قرار المفوضية الأوروبية، سبتمبر/ أيلول الماضي، فتح تحقيق بشأن الدعم الذي توفره الحكومة الصينية لقطاع السيارات الكهربائية، وتهديدها برسوم جمركية إضافية، حماية لصناعة السيارات التي بدأت تتهاوى أمام السيارات الصينية منخفضة التكلفة.

تحرص الصين على الفوز باعتماد القوة الناعمة القائمة على كسب النقاط جولة تلو أخرى

تبقى جولة الزعيم الصيني أشبه بمباراة رياضية بعدّة متنافسين، يحاول كل لاعب كسب أكبر قدر من النقاط فيها، من دون قدرة أي طرفٍ على حسمها لصالحه، وإن بدت الكفّة متأرجحة لصالح الرئيس شي جين بينغ الذي سجّل ضد الجميع بدون استثناء، في وقتٍ لم يخسر فيه شيئاً، فالرجل كسب في الاقتصاد والسياسية وقبلهما في الدبلوماسية. وعاد إلى بكّين مزهوّا بنصر توّجه بـ"عناق استراتيجي" على هامش زيارة الرئيس الروسين بوتين، الصين.  
وخلافا للرئيس ماكرون الذي بدا تائها بلا خطّة واضحة، مكرّرا سيناريو زيارته بكين قبل سنة، (راجع مقال الكاتب: "ماكرون في بكين... اختراق أم احتراق دبلوماسي؟"، "العربي الجديد"، 2023/04/21)، معتقدا أنه يمتلك من الأدوات ما يؤثّر به في صناعة القرار في الصين؛ سميا ما يرتبط بالموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، متجاهلا عوائدها على الاقتصادي الصيني.
تدرك الصين جيداً أن العالم يمر بمرحلة انتقالية سمتها تغيير في موازين القوى، كما تدرك أن زمن الانتصار بالضربة القاضية انتهى (الحربان العالميتان الأولى والثانية)، لذلك تحرص على الفوز باعتماد القوة الناعمة القائمة على كسب النقاط جولة تلو أخرى.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري