رحلات مفخّخة

16 يونيو 2023
+ الخط -

عام 1927، ظهرت في "أوتومات" امرأة تشربُ فنجان قهوتها وحيدة. الوقتُ متأخّر، الطقسُ بارد في الخارج، وهي تستدفئ في صالة كبيرة، ساطعة الإنارة، وخالية. تبدو حذرة، بل ربّما خائفة، كمن لم تألف الجلوس وحدها في مكان عام، وثمّة شيء ما ليس على ما يُرام. تمنعُ يدَها من الارتجاف عندما ترفع كوب قهوتها، ولا ترفع رأسها إلى النّاظر. "أوتومات" لوحة عن الحزن، بطاقة معزوفةٍ موسيقيةٍ سوداوية عظيمة. فيها كما في باقي لوحات إدوارد هوبر عزلةٌ شائعة تحاول تخفيف الإحساس المُضنِي بالوحدة. في مطاعم تتوزّع على الطّرقات، أو في كافيتيريات آخر الليل، وأيّ مكان عام يوحي بالوحدة. حيث البعد عن الحياة العائلية، وتلك المصابيح السّاطعة، والأثاث الخالي من أيّ هوية، وغيرها من الأشياء التي تتخفّف من أسباب الراحة المزيّفة، في البيت. لا تعادي شخصيات لوحات هوبر البيت في حدّ ذاته، بل تتصرّف كمن خذلها بطرقٍ لا نعرف مداها، بما أنّه أرغمها على الخروج إلى الليل، أو على الارتحال في الطرقات التي صارت ملاجئ لمن لا "بيت" لهم في العالم المألوف. هم الذين يصفهم بودلير بأنّهم: شعراء.

على هذا المنوال، تتعدّد أنواع السفر في "فن السفر" لآلان دو بوتون، بين تجربة هوبر الخارجة عن المألوف، وقصة الدوق أسينت في رواية "استرداد المال" لـ ج. ك. هيسمانس، الذي يقدّم نموذجاً مثالياً للمفارقة بين التوْق إلى السّفر وحقيقته الواقعية، ففي أحد الأيام شعر الدوق بحاجةٍ ملحّة لزيارة لندن. وقرّر، هو الذي نادراً ما يغادر محيطه، أن يشدّ الرّحال إليها. في الطريق إلى محطّة القطار، اشترى دليلاً للمدينة. ثم، دخل باراً ومطعماً إنكليزيين، وعاش تجربة الانخراط في مجتمع لندني، فاستولى عليه الكسل فجأة، بعد أن تبدّت له متاعب الرحلة، من ثقل الحقائب، والنوم في سريرٍ غريب، وصقيع مدينةٍ باردة. عاد إلى بيته قائلاً: ما فائدة الارتحال إذا كان الشخص قادراً على السفر عبر الكتب؟

لكن هل الأمران سواء؟ بوُسع أحدِنا أن يقول إنّ بإمكانه أن يقضي حياته من دون أن يغادر محيطه، مكتفياً بالجمال والجلال فيه. لكنّه حالما يزور بلداً آخر يتبيّن له كم كان غافلاً، وأنّ رؤية مكان مختلف غيّرت حياته، ومفاهيمه للجمال والفنّ والحياة، فيُكدّره ما يضيع منه لعدم تمكّنه من السفر الدائم. بعد بضعِ رحلات، يقول لنفسه: حسناً، لقد رأيت القليل من جمال العالم، ولعل في ذلك عزاء عما لم أره، ولا بدّ من أن أتعلّم فضيلة القناعة. لكنّه حالما يسافر بعدها، يعود إلى كدَر العجز عن تحويط الجمال في كل ذرّةٍ من الكوكب، بذراعيه. ثم يتذكّر أنه في الأصل قاصرٌ في طموحه الجمالي. فهل هناك جمالٌ أعلى من جمال الكون، بنجومه الميّتة والحيّة، ولمعان غباره بذهب الشُّموع وفضّة الأقمار ...؟ مع ذلك، نستسلم لهذا العجز عن الاقتراب من الجمال اللّانهائي.

قرأتُ "فنّ السفر"، بعد رحيل آلان دو بوتون، قبل أيام، عن عالمنا هذا، إلى عالم أجمل. العالم الذي سنراه جميعاً، ولكنّنا لن نتمكّن من إخبار الآخرين عنه. إذا افترضنا أنّ الجنّة وجهتنا، ولم نضَع البديل في الحسبان. فلا أحد يريد السّفر إلى الجحيم، مهما كان مُغرماً بالسفر. تخيّل شخصاً ذهب إلى الجحيم، وقرّر أن يغادره إلى الجنّة، فيُجرّب كلّ الطرق، لعبور الجسر بينهما، وهدمِ الجدار كما يفعل المهاجرون السّرّيون على حدود سبتة المحتلة. هؤلاء لا يردّهم عن السّعي إلى الجانب الآخر شيء، حتى لو كان الموت، فالسّفر هنا يتجاوز المكان إلى المستوى النفسي، إلى الحالة الزّمانية للمكان، وإلى رمزه، هل هو بستانٌ أو مقبرة؟ ولعل في التّشبيه مرارة ما، لأنّه حسب ذلك، نحن في الجحيم ولا نحاول مغادرته إلى الجنّة، رغم معرفتنا بمكانها وطرق الوصول إليها. لكنّها جنة من؟

في "فنّ السفر"، يتمعّن دو بوتون في السّفر الخالي من الفضول السياحي والثقافي، مع نماذج منها إدوارد هوبر، الذي كان يقضي وقته على الطّرقات بين الموتيلات التي تومض بمصابيح النيون، والمطاعم الصّغيرة على الطرقات. ليعثر على الشِّعر في هذه الأماكن التي يزدريها الآخرون، وتجذب أمثاله من الباحثين عن الجمال غير المستهلك، في أقلّ الأماكن توقّعاً: سطوح الأشياء.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج