رجم قرداحي: إخضاع لبنان
في صيف العام 2020 أصدر مجموعة من شبّيحة الثقافة العربية بيانًا شديد اللهجة ضد قناة روسيا اليوم، يستنكر معالجتها الصحافية التي تحمل انتقاداتٍ لجزار الشعب، بشار الأسد. طالب البيان الذي حمل توقيعات سوريين ومصريين وعرب من دول أخرى، تجمعهم زمالة نادي الاستبداد العربي، موسكو بوضع حد لممارسات القناة الروسية.
تدور الأيام، وتأتي اللحظة التي يرتدي فيها بعض خدم الاستبداد، ممن طالبوا بإسكات الفضائية الروسية، مسوح المدافعين عن حرية الإعلام، وينبرون للدفاع عن وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، بعد الأزمة التي فجّرتها تصريحاته المبرِّرة لجرائم بشار الأسد في سورية، والحوثيين في اليمن، ويظهرون وجهًا مختلفًا تمامًا، بينما كل ما في الأمر أنهم يصيحون احتفاءً بتلميع بشار، أكثر من حرية قرداحي وسيادة لبنان.
هل أجرم قرداحي حين وصف الحرب في اليمن بأنها عبثية؟ أما وأنها حربٌ عبثيةٌ فهذا مسلّمٌ به ومفروغ منه، يشهد به كل مراقب منصف للمشهد اليمني. أكثر من ذلك، يمكنك القول إنها حربٌ ليست من أجل اليمن، يتناوب فيها طرفاها، المفترض أنهما خصمان، افتراس اليمن، سيادًة وحضارًة وإنسانًا، وبعبارة واحدة: هي واحدةٌ من غارات الحرب على الربيع العربي، في اليمن.
أما وأن جورج قرداحي قد قال إن الحوثيين يدافعون عن أنفسهم، فهذا صحيح تمامًا، من دون أن تكون محصلة هذا القول إن الحوثيين أصحاب حق، أو ضحايا، أو مقاومون يذودون عن التراب اليمني، فالحقيقة أنهم يدافعون عن وجودهم ومصالحهم وأهدافهم، بشراسةٍ تصل إلى ارتكاب مذابح جماعية بحق الشعب اليمني، كما أن الطرف المكوّن من السعودية والإمارات يدافع، هو الآخر، عن مصالحه ومخططاته وأهدافه، وفي مقدمتها قتل أي ملامح لثورة شعبية بدأت في اليمن 2011 ضمن تيار الربيع العربي الجارف.
"عاصفة الحزم" هذه التسمية، وحدها، تكفي للتدليل على أنها حربٌ عبثية، بل وسفيهة، فالبشرية لم تعرف حزمًا يستغرق ثماني سنوات كاملة، من دون أن يحسم شيئًا أو يحقق تقدّمًا ولو خطوة واحدة. وبالنظر إلى حصيلة نحو مائة شهر من الحرب، من المهم أن يسأل المستأسدون على لبنان أنفسهم عن خريطة اليمن الجيوسياسية قبل ما تسمّى عاصفة الحزم، أين كانت حدود الحوثيين السياسية والعسكرية، وكيف أصبحت بعد هذه السنوات من التدخل العبثي الذي كان يضع وأد ثورة الشعب اليمني أولويةً تسبق التصدّي للمشروع الحوثي، المسنود إيرانيًا.
في ذلك تتحدث تقارير عديدة لشبكة الجزيرة، ومركزها للدراسات السياسية، أختار منها هذه الفقرة في دراسة منشورة على موقعها في دراسة للباحث محمد الأحمدي، في 28 أبريل/ نيسان 2020، تحت عنوان "الإمارات في اليمن: من دعم الشرعية إلى تقويض ملامح الدولة"، ويقول في مقدمتها: "في اليمن، تضافرت عوامل عدة أخرى، دفعت الإمارات للانخراط بدور محوري فاعل في رسم المشهد الدامي في البلاد، فإلى جانب الرغبة في وقف رياح التغيير، ووأد مطالب التحوّل الديمقراطي، والقضاء على قوى الإسلام السياسي التي كان لها دور بارز في الثورة السلمية في اليمن، ثمّة طموح جامح لدى أبوظبي لتوسيع نفوذها الإقليمي على خطوط إمدادات الطاقة عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، والعودة إلى ميناء عدن الاستراتيجي، لا سيما بعد إعلان جيبوتي إلغاء عقد الامتياز الممنوح لمجموعة "موانئ دبي العالمية" واستعادة إدارة ميناء دورال، وإعلان سلطات "أرض الصومال" وقف أعمال بناء مطار القاعدة العسكرية الإماراتية في بربرة الاستراتيجي".
يمكنك أن تقول عن جورج قرداحي، وهو يتحدّث عن المسألة السورية، يبدو مثل شبّيح من شبّيحة إعلام النظام السوري، وهو يكيل الاتهامات للضحايا، ويدافع عن فظائع نظامٍ، يصنفها أي صاحب ضمير بأنها جرائم ضد الإنسانية .. لكن المشكل هنا أن المطالبين برأس قرداحي بدأوا أخيرا التقرّب من جزار سورية.
الأمر ذاته، يفعله قرداحي، وهو لا يرى في مليشيا الحوثي الطائفية سوى طرف يدافع عن نفسه، متجاهلًا الوجه الآخر من الحقيقة، أن الحوثيين يخوضون معركةً محكومةً باعتبارات طائفية وإقليمية ضد الشعب اليمني، كما أنهم ليسوا حركة تحرّر وطني، كما يصدّرون أنفسهم إلى العالم، تمامًا كما أن الذين أنشأوا التحالف الفاشل للحرب عليهم ليسوا دعاة سلام أو مدافعين عن الشعوب الثائرة، أو المبشّرين بقيم الحرية والديمقراطية والثورة .. كما أنهم ليسوا حماة عروبة اليمن بوصفها من ركائز الأمن القومي العربي، فمن يتحالف مع الصهيوني الذي يحارب بشراسة من أجل تهويد القدس وفلسطين، وصهينة الوجدان العربي كله، لا يستقيم منطقًا أو عقلًا أن نسلّم بأنه حامي حمى العروبة في اليمن.
أما والأمر كذلك، فإن القصة على ما يبدو تتجاوز كونها غضبًا من تصريحات "نصف رعناء .. نصف موضوعية"، أطلقها نجم الإعلام السعودي، المشلوح، جورج قرداحي، إلى ما هو أبعد وأعمق، وكأننا بصدد إحكام الخناق على لبنان، المختنق أصلًا بأزماته الداخلية، من أجل تهيئته وإخضاعه لسيناريوهات إقليمية، تمتدّ عبر أنابيب عابرة للحدود، ظاهرها الوقود، وباطنها التطبيع.