"رجعيّات فرنسية"

04 ابريل 2023
+ الخط -

فرنسا التي كانت وراء عبارة "الأدب الملتزم" (جان بول سارتر في كتابه "ما هو الأدب؟")، تبدو اليوم وكأنها تتنكّر لماضيها الأدبيّ العريق، فقد ظهر أخيرا كتاب أثار ضجيجًا بعنوان "رجعيات فرنسية، تحقيق حول اليمين المتطرّف الأدبي"، عن دار لوسوي، للصحافي فرنسوا كروغ (يكتب لصحيفة لوموند) يُظهر فيه أن ثلاثة من الكتّاب الفرنسيين النجوم والأكثر مبيعا هم ذوو ميل سياسي واضح إلى اليمين المتطرّف وعلاقات مشبوهة غير معلنة بأهمّ رموزه. الثلاثة هم ميشال ويلبيك، سيلفان تيسّون، ويان مواكس، الذين لا تجمعهم أدبيا أو فنيا أية قواسم مشتركة، غير أنهم سلكوا طريقا مشابها لناحية تمويه صلاتٍ أقاموها مع اليمين المتطرّف وإنكارها أو إخفائها، وهي صلاتٌ ما زال بعضها مستمرّا. 
وبهذا أو لهذا، يعمد كروغ، عبر تحقيقه الموسّع، إلى الكشف عن آليات تشكّلِ وسطٍ أدبيّ رجعيّ جدا، منذ التسعينيات، يتألّف من مجموعة من الكتاب المعروفين والمغمورين، ولكن أيضا من صحافيين وناشرين ومقدّمي برامج تلفزيونية ومنظّرين ذوي أفكار عنصرية ومتطرّفة، لم يكن دارجا يومها أو مسموحا المجاهرة بها من دون إثارة زوبعةٍ أو التعرّض لهجوم أو لمحاكمة. هذا ولا يعزو كروغ انحراف ذلك الجيل إلى قناعةٍ سياسيةٍ أو انتماء حزبي دائما، إذ يضعه أحيانا على حساب حبّ الاستفزاز لدى بعضهم، احتقار العصر وأفكاره ومبادئه السائدة، أو حتى الرغبة باجتياز خطوط حمر. وقد يكون هذا التحقيق ناجعا لفهم أسباب انفلات الألسنة، في الأعوام القريبة، في التعبير عن كراهية الأجانب وتفوّق البيض والعنصرية تجاه المهاجرين، مع الإشارة إلى أنه ليس وليد اللحظة، كونه يعبّر عن اتّجاه كان كامنا في المجتمع الفرنسي، متحيّنا اللحظة المناسبة لإعلان وجوده. 
وبالعودة إلى تحقيق كروغ، المفاجئ حقا وجود سيلفان تيسّون ضمن الثلاثي المذكور، خصوصا أنه من أكثر الكتّاب شعبية في المشهد الأدبي الفرنسي، وقد نال جوائز: غونكور للقصة عام 2009، ومديسيس للبحث عام 2011، ورونودو للأدب عام 2019، في حين تحقّق أعمالُه مبيعات تقدّر بمئات آلاف النسخ، ويجرى اقتباسها أفلاما سينمائية رائجة هي الأخرى. هو أيضا كاتب مقالة في جريدة لوفيغارو وصاحب برنامج يبثّ في إذاعة فرانس إنتر، وكاتبٌ رحّالة يسحر منذ نحو 20 عاما القرّاء بأخبار مغامراته وأسفاره ومشاهداته الشاعرية للطبيعة والعالم. في "رجعيات فرنسية"، يخبرنا كروغ أن تيسّون هذا، المناوئ للحداثة في جانبها المتوحّش، ومدّعي التعالي عن عالم السياسة والنفور من ضيق أفقها، ليس في العمق من اعتقدناه، فهو قد بدأ حياته المهنية في محطّة إذاعية (راديو كورتوازي) يملكها اليمين المتطرّف، ورحلته الأولى (جولة حول العالم على درّاجته) موّلتها جمعية قدامى المحاربين في الجزائر بالتعاون مع الجبهة الوطنية، وله صلات وثيقة باليمين الجديد. مثله مثل تيسّون، لطالما حاول ميشيل ويلبيك الاختباء خلف مقولة أن الراوي، بمواقفه وأفكاره، لا يعبـّر بالضرورة عن أفكار الكاتب. ومع ذلك، هو لم يتمالك نفسه من تدعيم كتاباته المثيرة للبلبلة، بتصريحاتٍ لا تقلّ عنها إساءة وعدوانية. كما يخبرنا كروغ أن ويلبيك على صلة برؤساء مجلة "فالور أكتويل" اليمينية المتطرّفة، وبمجموعة من مشاهير مدوّني الأحزاب الفاشية، ناهيك عن رعايته باقة من المنادين بعودة الملكية. يبقى يان مواكس، وهو أقلّهم شهرة، وإن كان كروغ يعزو نجاحاته إلى علاقاته بأصدقاء مشبوهين، وكان قد افتُضح نشاطه المعادي للسامية، شابّا، عام 2019، فاعتذر عن ماضيه ذاك، عازيا الأمر إلى "طيش الشباب".
ولئن كنّا من دعاة التمييز بين قيمة النص الأدبية ومواقف كاتبه السياسية والإنسانية، فنحن نفهم بصعوبة كيف تتسّق مفاهيم مثل الإبداع والخير والجمال مع أخرى قبيحة وشريرة تمارس أذيةً وفوقيةً على من تعتبرهم أدنى مرتبةً، وصولا أحيانا إلى سلبهم حقّ الحياة.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"