العدالة الانتقالية في سورية... "الموت والعذراء"
تُعدّ العدالة الانتقالية إحدى أبرز المهام والضرورات والأدوات التي تعتمدها المجتمعات الخارجة من الصراعات والحروب، بهدف تجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة قائمة على المصالحة والمساءلة. لكنّ هذه العدالة ليست دائماً مساراً واضحاً أو سهلاً، بل كثيراً ما تعترضها معضلاتٌ أخلاقيةٌ وفلسفية، تتعلّق بتوازن القوى بين الضحيّة والجاني، وبين الانتقام والعفو.
في هذا السياق، من المفيد الانتباه إلى التجربة التشيليّة في تطبيق العدالة الانتقالية، وما رافق هذه التجربة من تعقيدات أخلاقية وقانونية، إذ استطاعت المسرحية التشيليّة "الموت والعذراء"، للكاتب أرييل دورفمان، أن تعكس ضوءاً كاشفاً على جدلية العدالة والانتقام في المجتمعات التي مرّت في مرحلةٍ انتقالية.
تبرز شخصية بولينا نموذجاً حيّاً للضحايا، الذين يحملون جراحهم ويبحثون عن الإنصاف في مواجهة الماضي. عند إسقاط هذه الحكاية على الحالة السورية، يتضح حجم التشابه في الأسئلة والهموم، إذ إن سورية، مثل تشيلي وغيرها من الدول، تواجه تحدّياتٍ معقّدةً في سعيها إلى تحقيق العدالة بعد سنوات من القمع والانتهاكات. ليست مسرحية "الموت والعذراء" مُجرَّد عمل درامي، بل هي انعكاس عميق للتجارب الفردية والجماعية في ظلّ الأنظمة الاستبدادية. تدور القصة حول بولينا سالاس، التي تعرّضت للتعذيب والاغتصاب خلال فترة حكم بينوشيه. بعد سقوط الديكتاتور، وبدء المرحلة الانتقالية، تصادف بولينا الطبيب الذي أشرف على تعذيبها، لتقرّر احتجازه ومحاكمته بنفسها. تضعنا هذه المسرحية أمام السؤال الجوهري: هل إعدام الجاني يُعدّ تحقيقاً للعدالة أم أنه مُجرَّد انتقام مُقنَّع بقناع القانون؟
يخشى كثيرون من السوريين أن تؤدّي محاولات محاكمة الجناة إلى نشوب جولات جديدة من العنف والثأر
رغم معاناتها، لم تبحث بولينا عن القِصاص فقط، بل عن الاعتراف والاعتذار، وهو ما يعكس حاجة الضحايا في المجتمعات الخارجة من الحروب إلى سماع الحقيقة كاملة من أفواه الجناة. يوازي هذا المنحى في المسرحية ما يعيشه سوريون عديدون لا يزالون يحملون جراح الانتهاكات، ويطالبون بمحاكماتٍ علنيةٍ وشهادات تكشف عن جرائم الماضي. وعند تناول مسألة العدالة الانتقالية من منظور فلسفي، تبرز اختلافات جوهرية بين العدالة قيمةً كونيةً، والانتقام ردّة فعل شخصي على الظلم. يرى أفلاطون في "الجمهورية" أن العدالة تكمن في "إعطاء كلّ ذي حقّ حقه"، وهي بذلك تقوم على مبدأ الحياد والموضوعية. في المقابل، يرفض نيتشه هذا الطرح، معتبراً أن العدالة ليست سوى شكل من أشكال الانتقام الذي نُظّم ضمن بنية المجتمع. في كتابه "جنيالوجيا الأخلاق"، يُظهر نيتشه أن العدالة ليست قيمةً مطلقةً، بل هي تجسيدٌ لرغبة الأقوياء في ترويض الانتقام وضبطه. من هذا المنطلق، يمكن فهم شخصية بولينا بأنها تعكس هذا الصراع الفلسفي. من ناحية، تسعى إلى تحقيق العدالة من خلال محاكمة الطبيب ميراندا، ومن ناحية أخرى، تحرّكها مشاعر الانتقام التي لم تنطفئ رغم مرور السنوات. هذا الصراع ذاته هو ما يواجهه السوريون اليوم، إذ يقف المجتمع أمام خيار صعب بين اعتماد إجراءات قانونية ومؤسّساتية لتحقيق العدالة، أو اللجوء إلى العدالة الشخصية بدافع الانتقام، الذي يعبّر عن نفسه الآن بممارساتٍ فرديّة هنا وهناك، قد تؤدّي إلى دوّامات لا تنتهي من العنف.
تشهد سورية منذ اندلاع الثورة عام 2011 انتهاكاتٍ جسيمةً لحقوق الإنسان، شملت القتل خارج نطاق القانون، والتعذيب، والاختفاء القسري، واستخدام السلاح الكيماوي. ومع سقوط النظام، تبرز الحاجة إلى معالجة إرث الجرائم والانتهاكات التي تعرّض لها مئات الآلاف من السوريين. ليست العدالة الانتقالية خياراً ترفيهياً، بل ضرورة حتمية لبناء السلام المستدام. لكنّ تحقيق العدالة الانتقالية في سورية يصطدم بعدة تحدّياتٍ منها غياب الثقة في المؤسّسات القضائية المحلّية التي يُنظر إليها باعتبارها جزءاً من النظام المسؤول عن الانتهاكات، كما يخشى كثيرون من السوريين أن تؤدّي محاولات محاكمة الجناة إلى نشوب جولات جديدة من العنف والثأر. أيضاً، لا يزال الفاعلون السياسيون في سورية متردّدين في الاتفاق على إطار واضح للعدالة الانتقالية، ما يعزّز حالة الجمود.
يمكن أن تكون لجان المصارحة والاعتراف منصًةّ تُتيح للضحايا والجناة مواجهة الماضي بصدق، وهو ما قد يفتح الباب أمام مصالحة قائمة على الحقيقة، وليس على الإنكار
من الفِكَر المحورية التي تقدّمها المسرحية، ويمكن إسقاطها على الحالة السورية، أهمية التوثيق أداةً لتحقيق العدالة الانتقالية. "لا بدّ لأحد ما أن يبقى حيّاً ليروي ما حدث"، تلخّص هذه العبارة التي قالها دورفمان أهمية حفظ الذاكرة الجماعية وسيلةً لمنع تكرار الجرائم. ليس التوثيق وسيلة للمساءلة فقط، بل هو أيضاً عملية شفاء جماعي تساعد المجتمعات في مواجهة الماضي والتصالح معه. ورغم أهمية العدالة الانتقالية، يبقى السؤال الأكثر أهميةً: هل يمكن تجاوز الماضي من دون السقوط في دوامة الانتقام؟... تقدّم المسرحيةُ إجابةً مختلفةً، حيث المصالحة لا تعني النسيان، بل تعني مواجهة الماضي بشجاعة، والاعتراف بالألم جزءاً من الهُويَّة الجماعية. في سورية، قد لا يكون الحلّ الممكن هو محاكمة كلّ الجناة، بل يمكن أن تكون المصالحة والمصارحة العلنية وسيلةً لبناء الثقة. لجان الحقيقة والمصالحة، والاعتراف، والكفّ عن التعالي، كما حدث في جنوب أفريقيا، قد تكون نموذجاً يمكن للسوريين تبنّيه.
والمسرحية، في تحليلها لفكرة العقاب، ترى أن العدالة ليست قيمةً ثابتةً، بل هي عملية مستمرّة تُعيد تشكيل ذاتها وفقاً للسياقات التاريخية والاجتماعية. لا يمثّل الطبيب ميراندا مُجرَّد جلّاد، بل هو نتاج نظام اجتماعي وسياسي أتاح له ممارسة جرائمه. من هذا المنطلق، يمكن أن يُنظر إلى بولينا ليس ضحيةً فحسب، بل أيضاً شخصيةً تعكس تعقيد العلاقة بين الجلاد والضحية في مراحل ما بعد الصراع. هذه الرؤية تفتح باب التساؤل عن إمكانية تحويل الجناة شركاءَ في إعادة البناء بدلاً من الاقتصار على عقابهم، خاصّة حين يقول قائل إن هذه الجرائم والانتهاكات لم تقتصر على جهةٍ واحدةٍ وطرف واحد. تحدُث المصالحة الحقيقية، بحسب بول ريكور، عندما يُتاح للضحايا سرد قصصهم بحرّية، وعندما يعترف الجناة بمسؤوليتهم. تقدّم المسرحية لحظة المواجهة بين بولينا وميراندا فرصةً للتحوّل، فيصبح الاعتراف أداةً للشفاء الجماعي. في سورية، يمكن أن تكون لجان المصارحة والاعتراف منصًةّ تُتيح للضحايا والجناة مواجهة الماضي بصدق، وهو ما قد يفتح الباب أمام مصالحة قائمة على الحقيقة، وليس على الإنكار.
العدالة الانتقالية ليست خياراً ترفيهياً، بل ضرورة حتمية لبناء السلام المستدام
تبقى تساؤلات مهمّة: هل يمكن تجاوز الماضي من دون السقوط في دوّامة الانتقام؟ وهل العدالة الانتقالية قادرة على معالجة معاناة الأفراد أم أنها مُجرَّد شعار سياسي؟ ما مدى مصداقية العدالة الانتقالية سياسةَ مصالحة وطنية؟ وفي بعض الحالات، تُعامَل العدالة الانتقالية واجهةً سياسية لتخفيف الضغط الدولي من دون أن تمسّ جوهر معاناة الضحايا، فكيف يمكن ضمان ألّا تتحول هذه الجهود دعايةً فارغةً؟ وهل الجهود المؤسّساتية لمحاكمة الجناة حقيقية أم دعائية، إذ قد يُنظر إلى بعض المحاكمات باعتبارها خطواتٍ شكليةً، خصوصاً في المجتمعات التي لا تزال تعاني من تدخّل القوى الخارجية بحجج مختلفة، منها حجّة حماية الأقليات؟ وهل الانتقام أكثر فعّالية إذا تمّ بيد الضحايا أنفسهم؟ لقد اختارت بولينا محاكمة الطبيب بنفسها، لكن هل يمكن تعميم هذه الفكرة على المجتمعات بأكملها، أم أن تحقيق العدالة الفردية يفتح الباب أمام فوضى لا نهاية لها؟ هل يمكن تحقيق العدالة الانتقالية في مجتمع منقسم طائفياً؟ وكيف يمكن ضمان أن هذه العدالة لا تؤدّي إلى تفاقم هذه الانقسامات؟ وكيف يمكن تطبيق العدالة الانتقالية بوجود سرديتَين مختلفتين، فكلّ طرفٍ في النزاع السوري يملك رواية مختلفة عن الأحداث؟ هل يمكن تحقيق مصالحة حقيقية في ظلّ غياب رواية موحّدة للتاريخ، إذ يطرح الدور الذي تلعبه القوى الخارجية في النزاع السوري تساؤلاً حول كيفية محاسبة الجناة إذا كانوا مدعومين من قوى إقليمية ودولية، أو إذا كان الجناة نفسهم من غير السوريين بعد أن استجلب النظام عشرات المليشيات من غير السوريين؟
ليست العدالة الانتقالية في سورية مُجرّد محاكمات أو تعويضات مالية، بل يجب أن تكون عمليةً شاملةً تُعيد صياغة العقد الاجتماعي، وتعيد بناء الثقة بين مكوّنات الشعب السوري.