ذلك الكتاب لعزمي بشارة

03 ابريل 2023
+ الخط -

ما هو بالضبط ما يتظاهر ضدّه، منذ ثلاثة أشهر، مئاتُ آلاف الإسرائيليين؟ باختصار شديد جداً، هو مشروع قانون تطرحه حكومة نتنياهو على البرلمان، يقوم، أولاً: على إلغاء قانون أساس (سُنّ في 1992)، اسمُه "كرامة الإنسان وحريّته" (إسرائيل بلا دستور، تنظّم السلطات فيها قوانين أساس). وثانياً: تغيير تركيبة لجنة اختيار القضاة وعدد أعضائها (شرح هذا البند طويل وعويص، لكن المقصد العام زيادة نفوذ الحكومة فيها). وثالثاً: الحدّ من صلاحيات المحكمة العليا وسلطتها في الرقابة وفي تشريع القوانين الأساس، وفي شؤونٍ أخرى. وأيضاً إلغاء أحد معايير عمل هذه المحكمة. ورابعاً: إلغاء صلاحيات المستشارين القضائيين في الوزارات ... وأخذاً بمقولة "اعرف عدوّك" التي كانوا يقولونها في المدارس ووسائط الإعلام، إبّان كانت إسرائيل عدوّاً رسمياً في غير بلدٍ عربي، نحتاج أن نعرف أيّ مجتمعٍ هذا في دولة الاحتلال الذي تنتفض قطاعاتٌ عريضةٌ (مدنيةٌ وعسكرية) منه، ومن شرائح وأعمار متنوّعة، على عملٍ حكوميٍّ من أجل تغييراتٍ في مبنى المؤسّسة القضائية وصلاحياتها. ونحتاج أن نعرف حقيقة الانقسام المجتمعي وفي نخبٍ واسعةٍ في إسرائيل، والذي يوصَف بأنه عميقٌ، بين الساخطين على التعديلات القانونية (المقترحة)، وهم من أصحاب الأنفاس الليبرالية واليسارية الصهيونية، والمتحمّسين لها، من المنضوين في تشكيلاتٍ حزبيةٍ دينيةٍ، وفاشية، كبرى وصغرى، (سريعة التناسل)، تقودها زعاماتٌ فاسدة. نحتاج أن نعرف هذا، ليس صدوراً عن إعجابٍ بإسرائيل وديمقراطيّتها، فكيانٌ عنصريٌّ تأسّس على قتل أصحاب الأرض وتهجيرهم، ولا يكفّ عن ارتكاب الجرائم، لا يجوز أن يحوز إعجاباً كهذا، وإنما صدورٌ عن حاجةٍ، ملحّةٍ ودائمة، إلى فهم الديناميّات التي تبني فيها دولة الاحتلال منظومات قوّتها، ومعرفة نقاط الضعف البنيوية فيها، ومسار التحوّلات والانعطافات التي عبرتها. 
يُسعفنا في تلبية هذه الحاجة أهل الدرس العلمي من ذوي التأهيل في شؤون إسرائيل، وفي يقين صاحب هذه الكلمات أنّ ثمّة منجزاً مهماً في الأكاديميا العربية، في دراسة إسرائيل، نشأةً وكينونةً وأصولياتٍ وعسكرةً، بمقارباتٍ تباينت بين الكلاسيكية المدرسية والجدّة التحليلية التي تفيد من علوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع. وثمّة مسارٌ موصولٌ به المستجدّ الإسرائيلي بشأن ما يريد نتنياهو وشريكاه بن غفير وسموتريتش، في الحكومة الفاشية الراهنة، أن يصنعاه، في الخصم من قوة مؤسّسة القضاء في توازنات المنظومات الحاكمة في الدولة (أرادها هرتزل دولةً اليهود، لكنهم جعلوها دولةً يهودية!). من المهم أن نتوفّر على فهمٍ أوضح لهذا المسار، ولتحوّلاتٍ جوهرية، مرّت بها إسرائيل، قبل أن تصل إلى مشهد مئات الآلاف في تل أبيب (وغيرها) يتظاهرون، متّحدين، ناقمين، عنيدين، ويرفع بعضُهم رسماً لهرتزل تسحّ منه دمعة (!). وفي يقينٍ آخر، لكاتب هذه السطور، أن كتاباً أصدره عزمي بشارة في 2005 "من يهودية الدولة حتى شارون ... دراسة في تناقضات الديمقراطية الإسرائيلية" (دار الشروق، القاهرة، طبعة ثانية في 2010) يزوّدنا بوفيرٍ من مقدّمات هذا المشهد، وبمعطياتٍ تنفع في الوقوع على الجوهريّ في الذي يُسبّب تمسّك تلك الفئة العريضة في المجتمع الإسرائيلي بالحدّ من نفوذ المحكمة العليا، وفي إلغاء قانونٍ أساس يبيح، من أجل حرية الإنسان (الإسرائيلي اليهودي، بداهة) وكرامته، أن يستأنف في هذه المحكمة في شأنٍ يخصّه.
إنها علاقة (أو دوّامة) الدين والدولة في إسرائيل، قضية مركزية، توضِح الإشكال الحادث راهناً، ما يعود إلى أن بن غوريون لم يُدرك عمق الأزمة واتّساعها مع الأحزاب الدينية إلّا متأخّراً، وعرف أنّه إذا لم تجر تسوية هذا الأمر (وما له صلة به) بالاتفاق، فإنّ شرخاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً خطيراً سيحدُث في المجتمع، على ما يخبرنا عزمي بشارة الذي شرح، في الكتاب، ذلك القانون الأساس الذي يُراد إلغاؤه، ويهدف أساساً إلى "الدفاع عن حرية اختيار العمل من أجل تثبيت قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية". ثم يوضح بشارة التنازع بين يهودية الدولة وعلمانيّتها في عمل المحكمة العليا التي يستهدفها بن غفير الذي كان معلمه الأول الإرهابي كهانا "يحرج الأحزاب الصهيونية في مثابرته في تفسير يهودية الدولة كنقيض للديمقراطية".
يأتي بشارة على صراع الأحزاب الدينية واليمينية المتحالفة معها في البرلمان مع المحكمة العليا، وإنّه "يتّخذ شكل المطالبة بوقف تدخّل السلطة القضائية بإلغاء التشريعات، وفي خطوات السلطة التنفيذية عند اعتبارها مناقضة قوانين أساسية" ... هذا (وغيرُه) كُتب قبل 18 عاما.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.