دوّامة العدوان على غزّة
"العدوان على غزة"، عنوان تكرّر عشرات المرّات في السنوات الأخيرة حتى بات أمراً طبيعياً. لم تعد الغارات الإسرائيلية والشهداء الذين يسقطون في كل ساعة يثيرون الاهتمام العربي والدولي. باتت المتابعة اليومية لمشهد القصف والأخبار المتدفقة من القطاع أمراً روتينياً لا يحرّك المسؤولين العرب ولا حتى الشارع العربي الغارق في مشكلاته وأزماته.
في السنوات الماضية، كانت الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة خصوصاً، فالاعتداءات لا تتوقف في الضفة الغربية على سبيل المثال، تواكَب باحتجاجات عربية في أكثر من عاصمة، وأحياناً تستدعي اجتماعات لوزراء الخارجية العرب أو دعوات إلى تدخّل مجلس الأمن. مع الوقت، خفتت هذه التحرّكات، وتركت غزة تواجه مصيرها وحدها، على اعتبار أنها أصبحت معتادة على هذه الجولات من التصعيد التي ستنتهي قريباً. قد يكون هذا صحيحاً، لكن لا أحد يعيش مرارة خسارات الأرواح والممتلكات غير أهالي القطاع العالقين في دوّامة لا يعلمون كيفية الخروج منها، والتي لا تخفّف من وطأتها المساعدات المالية التي تغدق على غزة فترة محدودة بعد كل عدوان من دول عربية وأوروبية في إطار "رفع العتب" عن عدم قدرتها على وقف العدوان.
الأنكى اليوم أن العدوان الإسرائيلي الجديد يأتي في وقت تعيش فيه دول عربية "شهر عسل" مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي. ولم تكلف هذه الدول نفسها عناء توجيه اللوم أو النقد لحكومة بنيامين نتنياهو، ولا اتخاذ خطوات، أو حتى التهديد، بوقف عملية التطبيع المتسارعة، بل اكتفت ببياناتٍ أكثر من مقتضبة تدعو إلى "وقف التصعيد والتوتر في المنطقة". من المعلوم ما هو موقف هذه الدول من حركات المقاومة ضد إسرائيل. وبالتالي، ليس من المستغرب اتخاذ مواقف كالتي تأتي في سياقٍ تقليديٍّ ليس له أي أصداء دبلوماسية أو ميدانية.
وليس من المستغرب أن تكون هذه الدول متفّهمة لـ"التصعيد الإسرائيلي" باعتباره مخرجاً لحكومة بنيامين نتنياهو من أزماتها الداخلية المتعدّدة، سواء في مواجهة الاحتجاجات العارمة على قانون "الإصلاحات القضائية" والتي قسّمت المجتمع الإسرائيلي، أو الخلافات داخل الائتلاف الحكومي الذي يهدّد بفرط عقد الحكومة الإسرائيلية، رغم أنه من المستبعد أن تؤدّي هذه الخلافات إلى أمر كهذا، خصوصاً أن الفرصة قد لا تُتاح مجدّداً لأعضائه بأن يكونوا أطرافاً في ائتلافٍ جديد في حال التوجّه إلى انتخابات مبكرة. ومع ذلك، فإن التصعيد العسكري دائماً ما يكون الحل للحكومات الإسرائيلية في وجه المشكلات الداخلية، رغم أن التحوّلات في الداخل الإسرائيلي حالياً أكبر من أن تطمسها جولة حرب مع قطاع غزة.
هي دوّامة دائما ما تكون غزّة في وسطها، باعتبارها "الحلقة الأضعف" في الجبهات المتاحة لإسرائيل. فرغم سعي المقاومة الحثيث إلى إبجاد ما يسمّى "توازن قوى" مع الاحتلال، إلا أن الأوضاع التي يعيشها القطاع المحاصر وقلة الإمكانات تحول دون القدرة على تحقيق مثل هذا التوازن، حتى وإن تمكّنت الصواريخ من إيلام العدو وإلحاق بعض الخسائر في ممتلكاته، إلا أنها تظلّ أقلّ بكثير مما يدفعه الفلسطينيون في القطاع. تضاف إلى ذلك الحسابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكثيرة التي تحد من رغبة أطراف مواجهة إسرائيل، داخل غزة وخارجها، في تحويل المواجهة إلى حربٍ طويلة، وهو ما لا تريده حكومة الاحتلال أيضاً للاعتبارات نفسها.
العدوان الحالي أو "جولة التصعيد"، كما يحلو للحكومة الإسرائيلية تسميتها، ستنتهي قريباً بفعل الوساطات الدولية والمصرية، وبسبب عدم الرغبة في أن تكون المواجهة طويلة، لكن الحرب لن تنتهي، وستبقى غزّة وأهلها في دوّامة الاعتداءات الإسرائيلية.