دول متحضّرة " تنخرط " في الإرهاب
في ضوء الحرب الوحشية على غزّة، في أيام الناس هذه، سوف تجد مراكز رئيسية في الغرب صعوبة بالغة في تسويق تصنيفاتها للأعداء على المسرح الدولي، كما واظبت على ذلك من قبل، وعلى الأخص ذلك التصنيف الأكثر شيوعاً وتداولاً والذي يسم جماعاتٍ وأفراداً هنا وهناك بـ"الارهاب"، وقد لاقى هذا التصنيف في العقدين الماضيين هوىً وقبولا لاستخدامه على أكبر نطاق في دول الشرق والغرب، ولدى سائر المنابر الرسمية وبكل اللغات.
ظهر الاستخدام الواسع لهذا التصنيف غداة تفجير البرجيْن في نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، انطلاقا من أن تلك الجريمة قد استهدفت، بطريقة تدميرية مميتة، مرفقين مدنيين يضمّان عاملين مدنيين ومؤسّسات مدنية. وكانت وجهة هذا الاستهداف مصدر القبول بهذا التصنيف واعتماده، إذ إنه يلتقي مع التعريف الكلاسيكي البسيط والجوهري للإرهاب إنه نشاطٌ حربيٌّ أو تدميريٌّ يستهدف مدنيين ومرافق مدنية، لتحقيق غايات سياسية أو عسكرية أو استراتيجية. على أنه جرى، بعدئذٍ، توسيع فحوى هذا التصنيف، ليشمل حركات تحرّر وجماعات وأفرادا مقاومين، وامتدّ في الممارسة ليشمل تكوينات عرقية ودينية، ثم تيارات وشخصيات معارضة، وهذا هو سرّ تلقّف هذا التصنيف من أنظمة ديكتاتورية وشمولية إلى جانب أنظمة ديمقراطية وشبه ديمقراطية، فإذا رغبت دولةٌ ما أن تدّعي انتسابها للعصر الحديث، وأن تجتذب دعماً خارجياً لها، فإن من أيسر الأمور وأقربها إلى متناول اليد نعت الخصوم أو الجماعات والأفراد المستهدفين بـ"الإرهاب"، ما جعل هذا التصنيف من أكثر المصطلحات شيوعاً وتداولاً، وإلى درجة الوقوع في العشوائية والابتذال السياسي، نتيجة استسهال الحكم على الآخرين بـ"الإرهاب" من دون تقديم بياناتٍ كافيةٍ أحياناً على مسوّغات هذا التصنيف لمن يجري تصنيفهم.
وقد تواطأ الكلّ مع الكلّ في تمرير هذا التصنيف بعشوائية، وعلى قاعدة "براغماتية " تفيد بأن توسيع دائرة المصنّفين بهذه الآفة، هو أفضل وأجدى بالمفهوم الأمني من تضييق هذه الدائرة. على أن تكبير دائرة المصنّفين بالإرهاب ظل يقتصر على المجموعات والمنظمّات والأفراد، ولم يشمل الدول. وقد أثار هذا الاستثناء وما زال ريبة عميقة، إذ بات في وُسع دولة ما أن تتصرّف كما يروق لها وبغير قواعد أو ضوابط، فيما تضمن مسبقاً أنها سوف تظلّ في منجاة من الاتهام بالإرهاب ... بل قد يوصَم ضحاياها بهذه التهمة الشنيعة لمجرّد أن لديهم خصوصية ثقافية واجتماعية، أو أنهم سياسيون معارضون مثلاً.
إذ ينطبق كل تعريف للإرهاب على ما تقترفه آلة الحرب الإسرائيلية، فقد شاءت دولة جنوب أفريقيا تصنيف ما يجري بالتصنيف الأكثر وضوحاً وحسماً، وهو الإبادة الجماعية
وقد نشبت الحرب الإسرائيلية على غزّة بدعم أميركي، وبطريقة متوحّشة تنتهك كل القواعد، حيث لم يبق قانون دولي إلا وتم انتهاكه، على ما قال مسؤول في الأمم المتحدة عاين بنفسه الفظائع التي تجري على مدى الساعة ضد الكتلة البشرية لقطاع غزّة. وقد أنكرت واشنطن، في البداية، حجم الضحايا والأضرار، وادّعت أنها من إحصائيات هيئات رسمية تتبع لحركة حماس، وغضّت النظر عن استهداف المستشفيات والمراكز الصحية وطواقم الإسعاف، وقبل ذلك لم يؤرّقها قطع إمدادات الماء والكهرباء عن مليونين و400 ألف شخص. ثم بدأت تدريجيا تعترف بالحجم المروّع للضحايا، ولتدمير البيوت والمجمّعات السكنية، وارتفعت عقيرة المسؤولين بالمطالبة بـ"حماية المدنيين"، وكان من الطبيعي أن لا يُلقي ذئاب الحرب في تل أبيب بالاً لهذه الدعوات التي صدرت من واشنطن ولندن وبرلين، إذ إنها لم تقترن بأي إدانة للجرائم المروّعة، ولم يلوّح أصحابها بأي عقوبات أو ضغوط جدّية لوقف هذه الفظائع، فكان وما زال من المألوف أن يشيح بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت أبصارهما عنها، باعتبار هذه الدعوات مجرّد مجاملة لفظية مجانية للضحايا وذويهم، ومن ضروب الدبلوماسية الدعائية التي تجري ممارستها لإسكات منظمّات حقوق الإنسان والهيئات الحقوقية على امتداد الدول، بما في ذلك في الغرب.
وإذ ينطبق كل تعريف للإرهاب على ما تقترفه آلة الحرب الإسرائيلية، فقد شاءت دولة جنوب أفريقيا تصنيف ما يجري بالتصنيف الأكثر وضوحاً وحسماً، وهو الإبادة الجماعية، والذي لا يسمح بالاجتهاد أو التلاعب، كما هو الحال مع تصنيف الإرهاب، وقد أوضحت مرافعات بلد نيلسون مانديلا أن سلوك الإبادة الجماعية نهج اتّبعته الدولة الإسرائيلية منذ تأسيسها منذ 1948. وكما هي عادة الولايات المتحدة في الالتصاق بالدولة الإسرائيلية، سارع مسؤولون في واشنطن إلى نفي تهمة الإبادة هذه، وهو ما ورد على لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان. وبهذا، لم يحرم أركان إدارة الرئيس جو بايدن هذه الإدارة من تقاسم عار هذه الحرب مع شركائهم في تل أبيب، وهو ما تنبّه إليه رجال قانون وقضاء في جنوب أفريقيا، بإعلان تأهّبهم لرفع دعوى مماثلة بممارسة الإبادة الجماعية بحقّ كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهما الدولتان الضالعتان في هذه الحرب القذرة، وإن كانت أميركا ضالعة بصورة أكبر.
لمكافحة الإرهاب من غير مساومة، يضعون الساسة والقيادات العسكرية للدول في دائرة الإرهاب حين يخطّطون وينفّذون حرباً سافرة على المدنيين
وبما أن الإبادة الجماعية هي من أعلى درجات الإرهاب، فإن ترسانة الإدانات والتصنيفات السلبية التي تتمحور حول الإرهاب، التي تطلقها واشنطن للتداول بصورة شبه يومية، قد نالها عطبٌ كبيرٌ حتى باتت غير قابلة للاستخدام من أصحابها، وذلك لافتقاد هؤلاء للصدقية، ولأنهم انزلقوا من ازدواجية المعايير إلى الضلوع مباشرة في حربٍ متوحشةٍ على المدنيين، وخصوصا على الضعفاء منهم: الأطفال والنساء وكبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة والمرضى، وبحيث اجتمعت الوحشية مع الوضاعة، فيما مفهوم النصر الذي يسعى إليه بنيامين نتنياهو ومجلس حربه لا يعدو أن يكون بحثاً عن انتصارات رخيصة على البيوت والمتاجر والمدارس ودور العبادة ومراكز إيواء النازحين وعلى مقارّ الأمم المتحدة، وما تخلل ذلك من أعمال سلب ونهب يندى لها الجبين، وهو ما يعجز عنه عُتاة الإرهابيين في عالمنا.
لا حاجة لإعادة النظر في الإرهاب، بل المطلوب تفعيل مكافحة هذه الآفة من غير مساومة، وبحيث يتم وضع الساسة والقيادات العسكرية للدول في دائرة الإرهاب، حين يخطّطون وينفّذون حربا سافرة على المدنيين، وعلى مكوّنات الحياة المدنية، جنباً إلى جنبٍ مع المجموعات والمنظمات والأفراد ممن يقترفون هذه الممارسة المقيتة على أي أرضٍ وتحت أي سماء في عالمنا. بل إن إحدى غايات هذا المقال التأشير إلى أن مراكز نافذة في الغرب سبق أن وضعت ووفّرت أدوات ومعايير تصلح لمساءلة هذه المراكز ومحاكمتها أخلاقياً وسياسياً وقانونياً. فقد انتهت حملتهم الكبرى والشاملة والعرمرمية على الإرهاب في العالم بضلوعهم هم (الممثلون السياسيون والعسكريون لهذه المراكز) وبدرجاتٍ في شنّ حربٍ ذات طبيعة إرهابية واستهدافات إرهابية مكشوفة، وبذلك تم الانتقال من التغنّي بالقانون الدولي وقواعده وأحكامه إلى إطلاق حربٍ أقرب إلى حرب القبائل المنقطعة عن عالمنا: كل قبيلتنا ضد كل قبيلتهم، إما نحن أو هم ... سوف نفعل كل شيء كي لا نُبقي أحداً من قبيلتهم.