دميانة نصّار .. كل هذه البراعة
ليس جديدا تماما ما فعله المخرج المصري، عمر الزهيري، عندما أعطى أدوار فيلمه "ريش" إلى ناسٍ غير ممثلين، التقط فيهم القدرة على تلبية الأداء المتقن الذي يريدُه منهم. فعل شيئا من هذا يوسف شاهين، ومخرجون قديرون في غير بلدٍ عربي. ولكن حالة الصعيدية الفقيرة، دميانة نصّار (39 عاما) متفرّدة، وقد كانت لها بطولة هذا الفيلم المختلف في السينما المصرية، ليس فقط لأنها لا تعرف القراءة والكتابة، ولا لأن أحوال المرأة التي شخّصت دورَها تُشابه أحوالها، وقد قالت لاحقا إنها كانت تشعُر أن الفيلم هو قصة حياتها، وإنما أيضا، لأنها، بإتقانها المدهش دورَها، بإشرافٍ من المُخرج وتمريناته، كسّرَت أوهاما، يشيعها نجومٌ شهيرون، مصريون غالبا، عن أهمية الاحتراف والخبرة عند تأدية الأدوار الرئيسية، الصعبة خصوصا. كانت دميانة تعتذر للمخرج الزهيري لعدم معرفتها بالقراءة، فلا تقرأ السيناريو قبل تصوير المشاهد، فتُتْعبه معها، فيردّ عليها بأنها "أحسن من المتعلمين". ولولا أن هذه السطور تأتي على هذه المسألة بجدّية، لجاز أن تُستذكَر، هنا، مُزحة المنتج المصري (الأرمني)، تاكفور أنطونيان، لمّا أجاب، للمماحكة على الأرجح، عن سؤالٍ من ميرفت أمين له، عن السبب الذي دعاه إلى أن يشترك ممثلا في أحد الأفلام، فيما هو منتجٌ كبيرٌ وناجح، إنه فعلَ هذا ليُثبت للممثّلين أن "التمثيل ولا حاجة". ولولاها، قناعةُ صاحب هذه المقالة، إن مشاعر العبثية، والاكتئاب ربما، هي التي جعلت عمر الشريف يقول، مرّة، إن "التمثيل مجرّد حفظ كلام والنطقُ به أمام الكاميرا"، لجاز افتراض أن التمثيل لا يحتاجُ قدراتٍ وكفاءاتٍ خاصة. وبذلك لم يشحط عادل أدهم وسناء جميل وجميل عوّاد وحياة الفهد وعبد الرحمن آل رشي ويحيى الفخراني ونهاد قلعي و.. الذئب من ذيله، لمّا شاهدناهم يتألّقون، فأحرزوا إعجابنا الباهظ بهم. وبذلك يصير أن دميانة نصّار (أم ماريو) لم تأت فعلا مميزا في "ريش".
هذا غير صحيح، التمثيل يتطلب موهبةً وقدراتٍ وكفاءة. يحتاج تدريبا وتوجيها، وليس بالضرورة تعليما في معاهد وأكاديميات. وقد دلّت دميانة نصّار حنّا (اسمها الثلاثي) على أنها موهوبةٌ حقا، وعلى مقدرةٍ في الأداء عالية الكفاءة. لم تنطق في الفيلم الشهير بغير كلماتٍ ثلاثٍ أو أربع، لم تحفظ مسبقا كلاما نطقت به أمام الكاميرا. كان صمتُها أداءَها الأبرز. قالت إن ملامح وجهها لفتت نظر عمر الزهيري. كأنه كان يبحث في الصعيد عن "فلاحةٍ غلبانة"، بسيطةٍ أولا وأخيرا، كما ورد عنه، عمّن تعبّر بالصمت عن الانكسار والقهر والألم النفسي والهشاشة الثقيلة في الروح والنفس، عمّن تنطق، في تقاسيمها، وفي انكماشاتها في المنزل الشديد الضيق، وفي عينيها وحركتيهما وتحديقاتهما، عن كل الحزن في جوانح امرأةٍ تقيم في التعاسة والفقد والفقر. لم تكن في حاجةٍ إلى أن تتكلّم، فالحوار أصلا شحيحٌ في الفيلم، وفي وسعها أن تقول القليل عند الحاجة الملحّة، سيُسعفها الحال الذي تبدو عليه في أن تقول الكثير واللازم. عندما تعمل في مسلخ (لعلّه مسلخ كما أظن)، كانت تقطع أولا لسان الجاموسة وحلْقها. عندما يكون المحو، أو انكشافُه، أو إدانتُه إذا ما أردْنا شيئا من التزيّد، المقولة الأساس، المخفيّة والظاهرة في آن، للفليم، لا يصير مطلوبا من بطلته، دميانة نصّار، غير أن تمحو نفسَها، وأنْ تحاول مقاومة هذا المحو عند محكّات محدّدة في تتابع المشاهد الحادّة. أتقنت هذا كله، بدت على براعةٍ كما لو أنها مخضرمةٌ في "البلاتوهات" وأمام الكاميرات. كانت جميلةً وعظيمةً وصادقةً، على ما غرّد محقّا خالد النبوي.
قالت دميانة إن الفرصة التي تحقّقت لها على يدي عمر الزهيري جاءت متأخرة. كانت ترغب لو أنها تيسّرت قبل أن تتزوّج وتنجب ولديها وابنتيها. قالت إنها تحبّ التمثيل منذ صغرها. استأذنت زوجها وأهلها وأبناءها قبل أن تبادر إلى تجربة "ريش". شجّعوها، ثم فرحوا بها لمّا نجح الفيلم، وأحرز جائزةً في مهرجان كان لا تعرف معناها. لمّا كانت تؤدّي دورها، كانت تصلّي في البيت والكنيسة "علشان ربّنا ما يضيّعش مجهود الناس اللي شِقيت". ولمّا لقي الفيلم امتعاض الذين رموه بتهمة تشويه مصر، قالت إن هؤلاء "كسروا" خاطرها، لكن زوجها قال لها "دول غيْرانين منك، يا عبيطة".
ماذا بعد "ريش"؟ هل سنُصادف دميانة نصّار في أفلام ومسلسلات تالية؟ ستصير نجمةً على الأرجح. ستكون وجهاً يضجّ بالصدق والعفوية في الأداء، وبالثقة في النفس. .. هل ستغار منها نجماتٌ وممثلاتٌ معلومات؟ نعم.