دفاعاً عن الضحك
في رواية أمبرتو إيكو، الشهيرة، "اسم الوردة" (صدرت أول مرة بالإيطالية في 1980)، ثمّة أمين لمكتبة الدير الثريّة، التي تسعى إلى جمع كلّ معارف العالم (في القرن الرابع عشر)، وهو راهب عجوز أصيب بالعمى، يشرف عليها، ويتقن دهاليزها المُعقّدة، وغرفها العديدة، ككفّ يده، لكنّه يمنع أيّاً كان من ولوجها، إذ إنّ وظيفة تلك المكتبة هي حفظ المعارف، وليس نشرها. هذا، ولا يسود الراهب خورخي المكتبةَ وأقسامها ومقتنياتها فقط، وإنّما الدير كلّه. عندما يكتشف الراهب الفرانسيسكاني باسكرفيل، القادم للتحقيق في جرائم حدثت في الدير، أنّ العجوز هو وراء بعضها، ومنها إخفاؤه المخطوطة النادرة والوحيدة للمجلد الثاني من كتاب أرسطو "أبوطيقا" (فنّ الشعر) المتعلق بالكوميديا، وتسميم صفحاته، كي لا يطّلع عليها أحد، يسأله الراهب، وهو يراه يمزّق صفحات الكتاب ويبتلعها قبل أن تأتي عليها النيران، لماذا يفعل ذلك؟ فيبرّر قائلاً إنّ خطر الضحك شيطاني، فهو طارد للخوف، والإنسان لا يمكن أن يعبد الله ويُبجّله، إلا إذا خافه (!)
نعم، الضحك خطر على من يشكّلون موضوعه، بقدر ما هو خطر على أصحابه، الذين يجدون أنفسهم في مواجهة مؤسّسات وسُلطات تحتكر حقّ الإفتاء بما هو مُحرّم وبما هو حلال، مع ذرائع واتهامات لا قِبَل لهم بردّها، مهما اجتهدوا أو تذاكوا. وأشرس هؤلاء المهاجمين الخائفين على فقدان هيبتهم، لا هيبة الذات الإلهية، التي لا تحتاج إلى من يذود عنها، خاصّة من أمثال هؤلاء، هم، ولا بدّ، حماة الأخلاق والدين، الذين لا يُحذّرون ويسجّلون اعتراضاً فحسب، بل يقدّمون شكاوى ويرفعون قضايا، ويقيمون محاكم تفتيش تنتهي بالدعوة إلى معاقبة من يجرؤ على المساس بسلطوية مبادئهم، وتجهّم أفكارهم، ومحدودية رؤاهم، متّهمين الآخر، الساخر بخفة غالباً، بتحقير الذات الإلهية والإساءة إلى الشعائر الدينية ورجال الدين، مما هو دارج اليوم، داعين حتّى إلى إراقة دمه، لقاء مكافآت مالية ضخمة... الأمثلة عديدة، وهي رائجة هنا وهناك، وليس آخرها التركيز على كوميديين يصفون بعض المواقف المضحكة، كتلك التي تقع لبعض المصلين في الجامع. فما المُعيب في أن تروي كوميديّة لبنانية، أنّ من يخلع حذاءه ويدخل للصلاة في مسجد لبناني، قد لا يجد الحذاء عندما يخرج، لأنّه قد يكون سُرق، وفي هذا إشارة إلى الظروف الاقتصادية المُرعبة التي يعاني منها البلد. وما المسيء في أن نسخر من بعض رجال الدين الذين يمثّلون في النهاية أنفسهم والممارسات السيئة لكلّ ذي سلطة، أيّاً كانت.
المساس بالذات الإلهية هنا، ومعاداة السامية هناك، حيث يُمنع منعاً باتاً انتقادُ إسرائيل، مثلاً، وسياساتها الإبادية، وإلا اتُّهِمتَ بكراهيتك المطلقة لليهود، وبنزوعك إلى رميهم جميعاً في البحر، تهمة الإسلاموفوبيا جاهزة أيضاً، إن قلت إنّ ثمة أحكاما ظرفية تاريخية تُستحسن مراجعتها؛ العنصرية إذا انتقدّتَ بعض ممارسات المهاجرين العرب أو النازحين أو طالبي اللجوء؛ الانعزالية إذا انتقدتَ المقاومة الإسلامية... إلخ. مفردة الـ "nuance" غائبة تماماً عن القاموس، وهي تقتضي عدم النظر إلى الأمور بتسطيح أو من زاوية واحدة، عدم إطلاق أحكام مبرمة، والاستماع إلى وجهة نظر الآخر، الحكم على الأمور برويّة وعدل، تفادي تغليب لغة العنف على الحوار والعمل بمبدأ الأخذ والرد.
أجل، الضحك مُهمّ لأنه يعيد الأمور إلى نصابها، يحرّر من الخوف، يقتلع الحواجز، ويدمّر الجدران التي تحدّ الرؤية. إنّه يقتضي امتلاك مسافة، الانفصال والمجانية، لأنّه خالٍ من أيّ شروط نفعية أو نفسية أو أخلاقية. الضحك ممتع، وفيه جانب جارف هدّام تصعب السيطرة عليه. الضحك يكسر الجليد، يخلخل التابوهات والثوابت، يحارب كل أنواع التزمّت، ولا يعبأ بالعواقب. وبهذا، قد يتبدّى خطراً، وغير أخلاقي.